«رضينا بالهم والهم لم يرض بنا»: يخضع الواقع الحكومي والسياسي الى حد كبير، وعلى أكثر من صعيد، الى هذه المقولة، التي ذهبت مثلاً شعبياً. هناك حلقة مفقودة بين النظرة الواقعية الى التوازنات السياسية و«الما فوق سياسية» القائمة، وهي بالأحرى «لا توازنات»، وبين المسعى الذي يفترض أن يكون هو الواقعية بعينها، والذي يهدف الى الحد من انعدام التوازن، والحد من الاعتباطية في الممارسات السياسية، والحد من المزاجية في الخطاب السياسي، والرجوع قدر الامكان الى ما فيه شيء من نكهة الدستور والقانون الدستوري.

«رضينا بالهم والهم لم يرض بنا»: ما إن يسدل الستار على «عقدة» عرقلت تشكيل الحكومة خمسة أشهر تظهر في الحال «عقدة» أخرى. رغم الطابع اللامبرر من حيث المدة الزمنية لتمدد العقدة الأولى، بين طرفين من اللون الطائفي نفسه يجمع بينهما تفاهم سياسي موقع ومعلن، الا أن العقدة بحد ذاتها كانت لها حيثياتها: اختلاف بيّن على كيفية قراءة وتأول الأرقام والمقاعد بعد الانتخابات الأخيرة. لم يؤطر بحث هذا الخلاف في الحيز الدستوري، وتسبب بمراوحة دامت أشهراً، وظهر في سياقها أن «حزب الله» الذي عملت «القوات» على تحييده قدر الامكان عن هذا الخلاف المسيحي - المسيحي على الحصة الوزارية والحقائبية، في عمق الموقف الرافض منحها أي حقيبة «سيادية»، لكن بالنتيجة هناك أساس موضوعي للخلاف والتفاوض والمخرج هنا، بمعنى أن الطرفين القواتي والعوني حيثيتان حزبيتان كبيرتان، تشكلان بالتفاهم كما بالتنافس، الثنائية السياسية الرئيسية عند المسيحيين، منذ نهاية الثمانينيات من القرن الماضي.

الحالة مختلفة تماماً مع عقدة «نواب 8 آذار السنة» الموالين للنظام السوري و«حزب الله». حيثيتهم مستجمعة «توزيرياً» بقصد واحد: تعطيل الحلحلة الوزارية مزيداً من الأيام أو الأسابيع، من طرف حليفهم الأكبر. لا يهم حليفهم كثيراً معرفة اذا كان تعطيله الاضافي للتشكيل الحكومي، بحجة توزيرهم قد قلص رقعتهم. كان المشروع الأساسي تجميع كل الشخصيات السنية، خصوصاً البرلمانية، من خارج عباءة تيار «المستقبل». حين لم ينجح ذلك، جرى اعتماد الخيار الحالي، تجميع المرتبطين المحض بمحور الممانعة والذين يحوزون ثمانية بالمئة من التصويت، وشل الموضوع الحكومي بسبب ذلك، أقله الى مزيد من الوقت، ودفع الأمور مجدداً الى المأزق الذي بات تقليدياً: التخيير بين التعطيل والتفريغ وبين التكريس المتزايد للعنجهية.

لا بد هنا من التشديد على أمرين، مختلفين ومتكاملين.

الأول، أن الاقلاع عن احتساب الأمور بمنطق 14 آذار لا يترتب عليه، ولن يترتب، اقلاع القوى المتباينة عن منطق 8 آذار. تفكك 14 آذار قد يغري بظهور تناقضات 8 آذار في ما بينها على السطح أكثر من ذي قبل، انما بحدود معينة، وبشرط استمرار رابطة 8 آذار نفسها، وهو ما يتيحه ويستبقيه استمرار هيمنة معادلات «السلاح».

الثاني، أن الشكل الأساسي لانعدام التوازن، على صعيد المشاركة السياسية اليوم، هو التفاوت، بين الأحادية المقفلة والمنهجية في طائفة، وبين الثنائية المتأرجحة بين التفاهم والتنازع في طائفة، وبين ظهور جماعة أكثرية طائفية في صورة المتدخل لدعم أقلية في الطائفة الموازية، ولهان الأمر لو كان تدخل بالدعم والمؤازرة، بل هو في اللحظة الحالية دعم تهديدي بالتعطيل، ودعم لا يريد أن يدرك أصحابه أنهم، بغيرتهم على حصة مجموعة سياسية أقرب لهم في الطائفة الأخرى، انما يسهمون في تأجيج النعرة، والانفعالية، ناهيك عن تطويق عمل المؤسسات، وبالأخص الرئاستين الأولى والثالثة.

عملياً، تشكل العقدة الحالية، أو «المستحدثة»، غطاء لتعقيد اقليمي جديد. الممانعون يريدون لأنفسهم المزيد من الوقت، بانتظار المزيد من وضوح الصورة لبنانياً واقليمياً. هي بهذا المعنى حجة وذريعة للمماطلة أو الاطالة، أكثر منها «عقدة» لها حيثية قائمة بذاتها.

لكن هذه الحجة والذريعة تعودان فتكشفان كما في كل مرة، أنه في البلد، يتكرر سريان معادلة «رضينا بالهم والهم لم يرض بنا» عند كل عتبة، وأمام كل حدث. مثلما أن المواجهة مع «حزب الله» لها كلفة، التساكن معه، والمأسسة، لهما كلفة أيضاًً، وكلفة مريرة ومعقدة، وأحياناً مكلفة أكثر من المواجهة نفسها. بيد أن هذه المشكلة تتقاطع مع مشكلة مستفحلة أكثر، هي المشكلة التي منها يتغذى «حزب الله»، كما تغذى من هم قبله: مشكلة أن التوازن بين الطوائف لا يمكن أن يؤمنه أي نظام طائفي الا كانعدام، توازن مموه أو مكشوف، بين الطوائف. لا نظام طائفي يمكن أن تقوم له قائمة مع عدالة بالتوزيع والتحاصص. ليس هناك من يملك خطة «للانصاف الفيسفسائي تحت امرته» بين جميع «المكونات»، ولو فعل لزاد الطين بلة.