«بات من المسلّم به أنّ الحكومة ستمكث طويلاً على قارعة التأليف، في انتظار مَن يأذن لها بالولادة».
هذا ما تنطق به الوقائع السياسية التي تدحرجت على حلبة التأليف بدءاً من حرب الحصص والأحجام وما اتّصل بالعقدتين القواتية والدرزية على مدى الاشهر الخمسة الماضية، وصولاً الى عقدة تمثيل «سنّة 8 آذار»، التي أعادت الأمور الى خلف المتاريس، وأطلقت رصاصة الرحمة على الأمل بولادةٍ حكوميّةٍ وشيكة.
على أنّ أبرز ما في هذه الوقائع، كما يقول مرجع سياسي، أنه بقدر ما أنّ الضرورة باتت تحتّم أن يقدّم طبّاخو الحكومة شرحاً مقنعاً للناس حول المعايير المتناقضة والمتضاربة واللاواقعية واللامنطقية التي تمّ اعتمادُها في توزير كل طرف، فبذات الأهمية وربما أكثر هو الوقوف على جواب حول خلفيات مبادرة «حزب الله» الى إلقاء «الجمرة السنّية» على حلبة التأليف، سواءٌ لناحية المضمون السياسي لهذه الخطوة أو توقيتها، لا سيما أنّ ما يضفي على الأمر أهمية بالغة هو أنّ الالتزام بإشراك «سنّة 8 آذار» في الحكومة، ليس التزاماً عابراً أو لفظياً بل هو التزام من قبل الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله.
وبالتالي التزامٌ من هذا النوع يعني لا تراجع عنه. خصوصاً وأنّ السيد نصرالله مقتنع أنّ من حق هؤلاء أن يتمثّلوا في الحكومة دون منّة من أحد.
في تقدير المرجع المذكور، أنّ مقاربة هذه العقدة، وما واكبها من تأخير أو تعطيل للحكومة، من خلال سطح الامور، لا يوصل الى الاستنتاجات الموضوعية، بل ينبغي البحث عن الدفين من الوقائع غير المنظورة.
وثمّة ما في هذا العمق يدفع الى القول بأنّ ثمّة اعتباراتٍ داخلية وخارجية قد تكون هي التي ولّدت عناصر ريبة لدى «حزب الله» من توازنات وتحالفات في الداخل اللبناني، لها بعدُها الخارجي، هي التي دفعته الى رمي الـ«لا» الكبيرة في طريق تشكيل الحكومة، مصرّاً على توزير «سنّة 8 اذار»، خلافاً لرغبة الرئيس سعد الحريري، وكذلك الأمر رغبة رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي فاجأ الحزب في مقابلته التلفزيونية الاخيرة بتبنّيه، وبشكل حرفي، للقراءة الحريرية الاعتراضية على توزير هؤلاء. وبمجموعة الرسائل السياسية الكثيرة التي وجّهها عون الى الحزب ولم يكن وقعُها مريحاً.
وبمعزل عن الاعتبارات الداخلية وما رافقها من ألاعيب داخلية ومعايير توزير لفريق ابن ست، وفريق ابن جارية، ودلع وغنج لطرف، ونَهْرٍ لطرف ثانٍ، واستعلاء على ثالث، وعدم رؤية رابع، وإصرار على إقصاء خامس يتربّع على مساحة تمثيلية كبرى، فثمّة اعتبارات ومشاهد خارجية بعضها مرئي وبعضها غير مرئي، قد تكون هي التي تكمن خلف اكمة تعطيل الحكومة لعلّ أبرزها:
- التحضير لعقوبات أميركية مشدّدة على إيران و«حزب الله».
- صياغة الحكم التي تعدّها المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري.
- إعادة رسم خريطة جديدة للمنطقة، وليس أدلّ في هذا السياق، من صورة بنيامين نتنياهو في سلطنة عمان، وحضور إسرائيلي أمني ووزاري في أكثر من دولة عربية وخليجية.
- محاولات الدفن المتواصلة للقضية الفلسطينية الى حدِّ إطفائها بما سُمِّيت «صفقة القرن»، التي يبدو أنّ أصحابها ماضون بها بأسرع ممّا رسم أصحابها، والتي عليها ستترتّب الكثير من التداعيات والمتغيّرات وحتى الحروب التي قد تشمل ساحات عدة في المنطقة، والعين طبعاً على إيران من دون أن ننسى «حزب الله»، خصوصاً وأنّ أزمة «صواريخ المطار» وإن كانت قد نُفّست في الإعلام، إلّا أنّ وظيفة إثارة أمرها يبدو أنها لم تبدأ بعد، أو الأصح لم تحن بعد.
- الاستفاقة المثيرة في توقيتها على أنّ الأوان آن لوقف حرب اليمن. وبدء الحديث عن الحلّ الأميركي في هذه البقعة.
- تفعيل حراك الحلّ السياسي على الخط السوري، وآخر ما تبدّى في هذا الجانب قمّة اسطمبول حول سوريا بين زعماء روسيا وفرنسا والمانيا وتركيا.
في هذه النقطة الأخيرة، يقول المرجع السياسي: المهم قبل كل شيء أن نعرف أيّ مصير للمنطقة، والى أين هي ذاهبة، أو بالأحرى الى أين تُؤخذ، والأهم هنا أنّ لبنان من ضمن هذه المنطقة وأينما أُخذت سيُؤخذ معها، وما يصيبها لن يكون هو بمنأى عنه، حتى ولو كان قرارُه السياسي معنوناً بعنوان «النأي بالنفس».
ثمّ يسجّل جملة ملاحظات، أبرزها أنّ واشنطن التي لم تكن حاضرة في هذه القمة، سارعت الى تأييد البيان الختامي الذي انتهت اليه، وموافقة الأميركيين، الذين لطالما كانوا في موقع الاعتراض تطرح أكثر من علامة استفهام.
والابرز في الملاحظات أيضاً، هو تحرّك الميدان مباشرة بعد القمة، فبشكل متزامن تحرّكت جبهتا إدلب وشرق الفرات مجدداً. ففي الأولى، بدا أنّ ثمّة قراراً بتسريع تنفيذ تفاهمات سوتشي بين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان، ومن هنا، فإنّ الاشتباكات التي بدأت تشهدها إدلب بعد انتهاء القمة الرباعية، قد تكون مؤشراً الى أنّ الأمور تمضي في الطريق المرسوم.
وبحسب قراءة المرجع السياسي، فإنّ الحال تكاد تكون نفسها، في شرق الفرات، حيث بدأ الأتراك بالفعل التمهيد الناري لعملية عسكرية، في تلك المنطقة الخاضعة للنفوذ الأميركي، وضدّ وحدات الحماية الكردية، المدعومة أميركياً، وهو أمر يجري، على ما يبدو، ضمن غطاء سياسيّ دوليّ، يمكن رصدُه في ما تضمّنه البيان الختامي من إشارة إلى رفض النزعات الإنفصالية التي تهدّد وحدة سوريا، وهو بند يتجاوز مجرّد الإرضاء الكلامي لتركيا، المتوجّسة من تنامي «الكانتون» الكردي على حدودها الجنوبية. ومن هنا يتّجه الوضع في شرق الفرات إلى مزيد من التصعيد بين الأتراك والأكراد.
على أنّ ما ينبغي التمعّن ملياً فيه، يقول المرجع، هو دعوة قمّة اسطنبول إلى تشكيل لجنة صياغة الدستور السوري الجديد قبل نهاية العام 2018. وبالتأكيد انّ هذه الخطوة ينبغي أن تسبقها ترتيبات تمهيدية للحلّ السياسي. فهل هذا ممكن؟ ومَن سيرعى هذه الترتيبات ومَن سيضمنها، خصوصاً وأنّ الأكيد أنه لو أمكن الوصول الى العناوين فإنّ تفاصيل التسوية إن قيض التوافق عليها من حيث المبدأ ستكون، بلا أدنى شك، عنوان الصراع السياسي بين اللاعبين خلال الفترة المقبلة.
وقبل كل ذلك، يقول المرجع، ينبغي السؤال عن طبيعة النظام السياسي الجديد في سوريا، الذي سيضمن التسوية السياسية. خصوصاً وأنّ حجم التباين هائل في المواقف بين الأطراف الخارجية الفاعلة على الساحة السورية.
وقبل كل ذلك ايضاً، إذا كان الحديث الآن عن حصص روسيا وواشنطن وتركيا وربما فرنسا وألمانيا وكل الدول الحاضرة في الساحة السورية، في هذه التسوية، فالسؤال هنا ماذا عن حصة إيران، وأيضاً ماذا عن «حزب الله»، فهل سيبقى في سوريا، وهل سيخرج منها، وكيف سيتمّ ذلك ولقاء أيّ ثمن؟
في خلاصة قراءة المرجع دعوة الى ترقّب ما ستؤول اليه الوقائع السياسية وغير السياسية التي تتلاحق في المنطقة؛ والحكومة اللبنانية، بمعاييرها وحقائبها السيادية والخدماتية والمدهنة وبثلثها المعطّل أو المسهّل، ما هي إلّا تفصيل صغير جداً يكاد لا يرى أمام ما يجري من حول لبنان، وكل ذلك بالتأكيد لا يبعث الى الاطمئنان، خصوصاً وأنّ رياحه الساخنة لا بل العواصف مفتوحة لتشمل كل الاتّجاهات.