على رغم من الجهد المبذول لـ«تسخيف» كل من فوجِىء أو استخفّ بـ«العقدة السنية»، والإصرار على إعطائها الدوافع والأسباب المنطقية بوجوهها السياسية والمذهبية والإحصائية التي تعطيها مشروعيتها وتبرّر خوض المواجهة الجديدة التي بدأت فور طَي العقد الأخرى الدرزية والمسيحية، وجمدت على ما يبدو كل المساعي التي كانت قد دخلت مرحلتها الأخيرة وصولاً الى تأليف الحكومة، قبل ان تعود الى نقطة الصفر.
يدرك الداعون الى تمثيل «سنّة المعارضة» أنهم تجاوزوا «الخطوط الحمر» التي رسمها الحريري منذ اللحظة الأولى للتكليف، وشدّد عليها مراراً يدعمه أكثر من طرف، قبل ان يتفرّغ للعقد الأخرى التي أنهَكته وكادت أن تفكّك بعضاً من تحالفاته السياسية والحزبية، وتسبّبت بأجواء من التشنج المذهبي.
والدليل الى ما عانى منه الحريري هو ما بلغته علاقاته مع «الحزب التقدمي الإشتراكي» و«القوات اللبنانية» وتيار «المردة»، وخصوصاً عندما جالَ على الجميع لنَزع إحدى الحقائب الخدماتية والأساسية لإعطائها لـ«القوات» بدلاً من إعادة النظر في حقيبة «العدل التي استعادها رئيس الجمهورية بعدما سبق له أن منحها لـ«القوات»مع نيابة رئاسة الحكومة من «الحقيبة ـ التوأم» عند البحث في التسوية التي حجبت عنها الحقائب السيادية والخدماتية الأساسية.
ويدرك أصحاب هذه النظرية انّ «العقدة الدرزية» اكتسبَت المنحى عينه الذي استنسخ في الأمس عند البحث في حصة النواب السنّة. فالأمير طلال ارسلان تراجَع ومعه داعموه في النهاية عن الإصرار على حقيبة وزارية، بسقوط شرعية كتلته النيابية التي جمعت من نواب كتلة «الإصلاح والتغيير» قبل الإعلان عن تكتل «لبنان القوي»، فسقطت النظرية التي قادت الى إدخال ارسلان الى الجنّة الحكومية.
ولذلك، فإنّ كل من استسلم للحل الذي تَم التوصّل إليه درزياً، لا يمكنه ان يدافع او يُشارك الثنائي الشيعي نظريته لإشراك أحد هؤلاء النواب بإحدى الحقائب السنية.
والى هذه السيناريوهات التي أجمعَت على انّ مساعي التأليف قد «كربجَت» الى أجل غير مسمّى، وخصوصاً إذا ما أصرّ الثنائي الشيعي على ربط تسمية وزرائه بمصير الحقيبة السنية، هناك من بدأ يقرأ في ما حصل، ليس استهدافاً للحريري فحسب.
فالعقدة الجديدة أنهت مسعى قادَه رئيس الجمهورية، وجَنّد له كل الخيارات المتاحة بغية تأليف الحكومة عشيّة احتفاله بالذكرى السنوية الثانية لانتخابه، ومددت فترة الشغور الحكومي الى ما يتعدّى ثلث الثلث الأول من ولايته، ولا يعتقدنّ أحد أنّ عون قد رضي بما حصل أيّاً كانت طريقة تعبيره إزاء ما فوجىء به، على ما يقول العارفون من أهل البيت.
وعليه، طرح السؤال: هل سيخوض الرئيس المكلف المواجهة مع الثنائي الشيعي بمفرده؟ وماذا سيكون عليه موقف تكتل «لبنان القوي» من العقدة الجديدة؟ وهل هي في نظره عقدة بسيطة يمكن تجاوزها بسهولة بالتعاون مع حليفه «حزب الله» ليقال إنها قابلة للحل؟ وطالما انّ المقعد السني الذي تبادله الرئيس المكلف مع رئيس الجمهورية لا يريده عون لسواه كما هو غير قابل للتجيير الى أي طرف آخر، وطالما انّ الثنائي الشيعي غير مستعد للتبادل مع الحريري بمقعد سني مقابل أحد مقاعده الشيعية، فمن أين سيأتون بالحل ما لم يتراجع هذا الثنائي عن مطلبه؟
الإجابة عن سلسلة الأسئلة هذه ليست صعبة. فهي تحمل في طيّاتها أجوبة واضحة وصريحة لا تحمل أي تأويل. ولكنها، وفي الوقت عينه، تفتح الافق على مجموعة من الأسئلة الأخرى التي تحوط بالأزمة الجديدة التي اكتسبت في شكلها وتوقيتها ومضمونها إشارة الى الدوافع الخارجية التي حالت دون تأليف الحكومة وفاقت في صعوبتها الدوافع الداخلية، خصوصاً أنّ «حزب الله» والرئيس نبيه بري يرفضان البحث في مسألة اعتذار الحريري عن مهمة التأليف.
وبناء على ما تقدّم، تَنحو التطورات المتوقعة الى مواجهة لن يكون الحريري فيها وحيداً. فبعض التفسيرات أعطت الخطوة أبعاداً دَلّت الى وجود موانع من خارج الحدود لولادة الحكومة، واستفاد أصحاب هذه المقولة من أخطاء كثيرة ارتكبها مختلف الأطراف، وخصوصا في النزاع المسيحي ـ المسيحي على الحقائب والحصص الوزارية، والذي أتاح تأجيل طرح العقدة السنية وإخفائها الى حين بروزها تزامناً مع العقوبات الأميركية على «حزب الله» وايران، والتي دخلت مدار الساعات المقبلة للتنفيذ.
فكانت الساحة اللبنانية مساحة مثالية للشروط المضادة في المواجهة المفتوحة مع الأميركيين، بحسب أحد المراقبين الديبلوماسيين الذي اعتبر انّ العراق تجاوَز باستحقاقه الحكومي هذا الامتحان، لتبقى الساحة اللبنانية ساحة المواجهة الوحيدة بين ايران والولايات المتحدة، وهو ما يُنذر بكثير من المخاوف على أكثر من مستوى سياسي واقتصادي وديبلوماسي.