لا مهرب من الاعتراف بأهم ثلاث حقائق عن الانتخابات العراقية الأخيرة التي اختُتمت بمنح الثقة لرئيس وزراء خارج من رحم العملية السياسية الفاشلة، ذاتها، ومن صلب أحزابها وقواعدها وقوانينها، وبنصف حكومة، وبأكوام من الوعود بالتغيير والتحرير والتعمير.
الأولى أن نسبة المشاركة في الانتخابات الأخيرة كانت أقل مما شهدته الانتخابات السابقة كافة. حيث قُدرت، باعتراف المفوضية العليا للانتخابات، بـ32 بالمئة فقط من 24 مليونا و349 ألفا و357 عراقيا تحق لهم المشاركة في الانتخابات. فقد كانت 79 بالمئة في انتخابات 2005، و62 بالمئة في 2010، و60 بالمئة في 2014.
الثانية أن هذه النسبة المتدنية لم تخلُ من تزوير اعترفت به القوائم الفائزة والخاسرة، معا، وقد أبرز كثيرون من المرشحين والمراقبين عددا من حالات موثقة تثبت التلاعب والتزوير.
والثالثة ما ثبُت من وقائع كُشفت مؤخرا تتحدث عن ثقافة المناقصات والمزايدات والبيع والشراء التي سادت في أوساط المرشحين للنيابة والوزارة والسفارات. ولا أدل على ذلك من مكالمة الشيخ وضاح الصديد والنائبة شذى العبوسي وحديثهما عن أسعار إضافة أصوات بالآلاف إلى قائمة من يدفع، وخاصة في ما يتعلق بنتائج تصويت الخارج والاقتراع الخاص والقوى الأمنية والتي لم تخضع لإعادة فرز ولا لتدقيق.
وهذا يعني، باختصار شديد، أن عدد الفائزين بجدارة واستحقاق ودون تزوير ولا تلاعب ولا بيع وشراء لا يتعدى نسبة 10 من النواب الحاليين البالغ عددهم 329.
وبالتالي فإن القرارات التي أصدرها ويصدرها مجلس من هذا النوع بشرعية مجروحة لا تمثل إرادة الشعب العراقي لا من قريب ولا من بعيد، لأن أغلب المصوتين عليها قادمون ضمن حصص الشطار الكبار، هادي العامري ونوري المالكي ومقتدى الصدر وعمار الحكيم وإياد علاوي وخميس الخنجر وأبومهدي المهندس وقيس الخزعلي والكرابلة، وفوقهم جميعا الحاج قاسم سليماني الذين يملك، وحده، حق الاعتراض (الفيتو) على مرشح، والموافقة على مرشح آخر، حسب ما بينته المكالمة الهاتفية بين الصديد والعبوسي. وذلك لأن عراق اليوم من أملاك الوقف الإيراني، وفق إعلان علي يونسي مستشار الرئيس الإيراني الذي قال فيه “إن إيران اليوم أصبحت إمبراطورية، كما كانت في التاريخ، وعاصمتها بغداد حاليا”.
يضاف إلى ذلك كله، وكما ورد في المكالمة إياها أيضا، المستر براين، وهو أميركي يعمل في شركة كمبردج أناليتيكا الأميركية المكلفة بالإشراف على انتخابات الخارج، والذي زعمت شذى العبوسي أنها وكيلته في عقد الصفقات وجمع الغلة من المرشحين مقابل الأصوات التي يضيفها إليهم لتمكنهم من الفوز، وبتسعيرة متهاودة، ربع مليون دولار فقط لكل خمسة آلاف صوت.
أما البيانات المشككة أو الغاضبة التي صدرت عن المفوضية العليا للانتخابات والحزب الإسلامي ومكتب سليم الجبوري ورئيس البرلمان الأسبق محمود المشهداني فإنها لم تستطع أن تقنعنا بعدم وجود واقع البيع والشراء في بازار الانتخابات، ولمتنكر أن هذا الواقع هو المسؤول الحقيقي والوحيد عن هيمنة أحزاب وعوائل وميليشيات قليلة على العملية السياسية، من ألفها إلى يائها، بالتنسيق والتفاهم مع السفارتين الحاكمتين في بغداد، الإيرانية والأميركية، منذ العام 2005 وحتى اليوم.
وهو الواقع نفسُه الذي جعل مختلسين كبارا، ومرتكبي مخالفات قانونية وأخلاقية وإنسانية، ومزوري شهادات، وعملاء علنيين لدول أجنبية، صناعَ رؤساء ووزراء ونواب وسفراء ومدراء، ومتمتعين بالحصانة، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ولم يكذب ديفيد بترايوس المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية “السي أي أي” حين قال، خلال مشاركته في منتدى حوار المنامة، “إن برلمان العراق الحالي يضم أشخاصا كانوا في السجن خلال فترة توليه قيادة القوات الأميركية، بعد عام 2007، وهو أمر مثير للريبة والقلق”.
ولولا واقع مأساوي من هذا النوع لما صار ممكنا أن يتجرأ ائتلاف دولة القانون، على لسان القيادي سعد المطلبي، فيعلن أن “رئيس الائتلاف نوري المالكي سيحتفظ بمنصب نائب رئيس الجمهورية مدى الحياة”. وذلك لأن “آلية تسمية نواب رئيس الجمهورية تبدأ بمقترح يأتي من رئيس الجمهورية، ثم يقدم للبرلمان للتصويت”. وكأنه يريد أن يقول إن رئيس الجمهورية سيقترح، وإن البرلمان سيوافق، حكما، ودون أي شك، باعتبار أن رئيسه نوري المالكي أحد أقوى أصحاب الحل والربط في شؤون الحكم والسياسة والقضاء، كلها، شاء من شاء وأبى من أبى.
تخيلوا أن متهما بالاختلاس والظلم والتخريب والتهجير العرقي والطائفي وتلفيق الملفات لمحاربة خصومه وحماية أصحاب الشهادات المزورة يظل حاصلا على الحصانة القانونية من أي محاسبة، مدى الحياة.
فقد جربه الشعب العراقي في دورتين مظلمتين مدمرتين من الرئاسة، حتى أجبر على الخروج من الباب ليعود من الشباك ببركات الولايات المتحدة التي نصبته، وإيران التي رعته وحمته من كل سوء، والتحالف الشيعي الذي تقاسم معه الملك والجبروت. ومثلُه ومن نوعه هناك العشرات من الكبار المتنفذين الذين يحتكرون السلطة والمال والسلاح.
هل استمعتم إلى حيدر العبادي الذي خلفه في الرئاسة، والذي جاء إلى السلطة باسم التغيير ومحاربة الفساد؟ فبعد أربع سنوات من التنويم والتخدير والوعود المضللة يعتذر للعراقيين عن فشله في القضاء على الفساد.
وليس بعيدا أن يخرج علينا عادل عبدالمهدي، هو الآخر، بعد أربع سنوات، أيضا، معتذرا عن التقصير، كما فعل سلفه حيدر العبادي.
وذلك لأن الواقع السياسي والأخلاقي في العراق، منذ 2003 وحتى اليوم، لا يسمح لأحد، رئيسا كان أو مرؤوسا، بأن يتحرر من قيد أسياده الكبار الذين سيّدوه ونصبوه في برلمان أغلبُ نوابه معينون بالتحاصص والتقاسم، أو قادمون بالبيع والشراء. والعهدة على وضاح الصديد وشذى العبوسي. ورغم كل ذلك فهم، جميعا، يباهون بنزاهة الانتخابات، ويتغنون بالديمقراطية، ويهللون لزمن التكنوقراط الجديد.