كلما يحصل أمر صادم في الواقع العربي، يعود السؤال المحاصر برقابة ذاتية، إلى سطح الوعي: لماذا تتكرر ظاهرة فشل الدولة وحالات اختلال الانتظام الاجتماعي؟ ولماذا يعجز الواقع العربي عن العبور إلى شكل انتظام آخر، أو التقدم خطوة إيجابية حقيقية نحو الديمقراطية رغم تراكم التجارب المؤلمة وتعاقب الثورات وفائضها وتعدد الصدمات والرضات التي تهز باستمرار وجدانه وكيانه؟
وقف العقل العربي منذ القرن التاسع عشر، متردداً أمام حداثة وافدة. ورغم اقتناعه بأنها سيل جارف تقلع كل من يقف في طريقها بحسب خير الدين التونسي، فقد عمد بدلا من الانخراط الفعلي في رهاناتها الوجودية الكبرى، إلى تجويف سؤالها الفلسفي، وأخذ يضاهيها بمحتوى انفعالي ونضالي مبتذل، ليحفظ بناه التقليدية بأقنعة متخفية، ويعيد تسليحها بأدوات تقنية حديثة. وهو أمر حال دون فهم التحولات التاريخية للحداثة التي أصبحت حقيقة كونية، وتسبب بإخراج الواقع العربي من التاريخ رغم احتلاله صدارة قلق العالم الأمني والسياسي والأخلاقي.
عدم دخول المجتمعات العربية طور الحداثة، رغم احتكاكها الطويل بها، يعني بقاء هذه المجتمعات محكومة لأطر علاقات تقليدية، وقواعد انتظام سياسية ذات طبيعة سلطانية تقوم على مركزة الدولة. أي قيام السلطة والدولة على مرتكزات مشخصنة لا تقبل التعميم، وقيام الروابط الاجتماعية على أطر غير معقلنة، بحكم أن مرجعية هذه الروابط لا يقررها العقل لتتخذ هيئة مدنية، بل مرجعيتها روابط الدم والعادات الموروثة. كل ذلك حال دون توحد افراد المجتمع في أي بلد عربي على أسس ثقافة جامعة توحد ميولهم واتجاهاتهم، وبقاء هذا المجتمع في حالة هجينة، تقف خلف جامعيته الشكلية والرسمية ثقافاتٌ وهوياتٌ متعددة، ظلت أرضية الولاء الأولى ومصدر الحماية والوقاية الأساسي للفرد من الدولة والسلطة.
ما زلنا محكومين لنموذج دولة تستمد مشروعيتها من اعتبارات خارج إرادة الفرد وإجماع المجتمع، بعضها تقليدي، وبعضها غيبي، وبعضها الآخر إكراهي وقهري. ما جعل الدولة، في أكثر إجراءاتها خارج معايير العقلانية المعتمدة في الغرب، وجعل مستويات الاتصال وسبل التفاعل بين الدولة والمجتمع في حدودها الدنيا. وهو أمر أدى إلى رسوخ فاصل تاريخي بين الدولة والمجتمع، لم تعد معه الدولة مجال تحقق الفرد وملاذ أمنه وأمانه، وفرض حاجة ملحة إلى تنشيط الهويات الخاصة، التي توفر للفرد ما لم توفره الدولة على مدى قرون طويلة.
ظلت الدولة في المجال العربي منفصلة عن المجتمع، بمعنى عدم اعتبار مجرياتها من شؤون المجتمع ومجال تحقق لإمكانات الفرد، بسبب عدم ارتقائها (الدولة) إلى أن تصبح كياناً كلياً تتحد فيه القاعدة القانونية بالضمير الخلقي، ويندمج من خلالها الوازع الفردي الخاص بعموم التدبير السياسي. بل بقيت الدولة مشخصنة، تقترن بإسم فرد أو عائلة أو رمز ديني، يكون أساس مشروعيتها واستمراريتها القهر والغلبة، وفي أحسن أحوالها الكاريزما الشخصية للحاكم ذي الصفات الاستثنائية. وهو أمر أفقد السلطة سمة العموم القادر على دمج الخاص المتنوع في داخله، فهي شخص أو فرد يأمر شخصاً أو فرداً آخر، وسبيل إلزامها الوحيد هو الإكراه الخارجي وليس الباعث الباطني للطاعة والتطوع الذاتي للانقياد.
إنها سلطة تستند إلى تراتبية غير معقلنة (لا تستند إلى العقل في تفسيرها وتسويغها)، وإلى موجبات أمر لا أخلاقية (لاغية لأي وجه من وجوه النشاط الإنساني الحر). الأمر الذي منع تشكل علم سياسي في المجال العربي (والإسلامي عموماً)، بحكم عدم قابلية السلطة للتعقل وعدم إمكانية عقلنتها، لأنها خارج مجال الإرادة أو المبادرة الفردية الحرة، بل كان هنالك أيديولوجيات سلطانية معممة تجعل الغيب (القدر الإلهي) مصدر نشوء السلطة ووجودها. فالملازمة التاريخية بين عقيدة القدر الغيبي وواقع الاستبداد السياسي ليس صدفة عرضية بل ينتسبان إلى مقولة واحدة وهي سلب القدرة عن الإرادة الإنسانية في صنع مجال وجوده. القدر عقيدة تضع إرادة الإنسان في موقع الضد مع إرادة الله، والاستبداد واقع موضوعي إكراهي يلغي فعلياً كل أثر للإرادة الحرة. القدر عقيدة تنفي إمكان الإرادة الحرة، والاستبداد واقع يحول دون ممارستها.
هذا جعل إرثنا السياسي إرث الدولة السلطانية على المستوى الفكري، وإرث دولة القهر والاستغلال على المستوى التاريخي، دفعت الفرد إلى البحث عن مصادر ولاء خارجها عوضاً عنها، تمثلت على مستوى الوعي بأمة أو إمامة-خلافة (متخيلة)، وعلى مستوى الواقع بالعشيرة (أو ما يحل مكانها ويماثلها على مستوى البنية والوظيفة مثل الدين والمذهب والفرقة والحزب السياسي) بصفتها تضامنات بديلة عن الدولة أو موازية لها. ما جعل الوعي العربي يعيش انفصاماً خطيراً بين وعي طوباوي حول واقع كلي ومتعال مرغوب فيه من جهة، وبين تضامنات فعلية تنزع إلى تجزئة الواقع وبعثرته ورسم حدود تكوينية فاصلة بين مكوناته تسد منافذ الاندماج والتكامل والإجماع في دائرة إجتماعه من جهة أخرى. هو وضع جذَّر أصالة الهوية الخاصة في المجال العربي، أي اعتبارها المصدر الطبيعي والمعطى البديهي الأول لأي تكوين سياسي أو بناء متحدي، وجعل كل متعلقات المجال العام، من دولة بصيغتها الكلية ومجتمع بقيمه الجامعة، أموراً عرضية يُبْقي تحققها في دائرة الصدفة المحتملة لا الضرورة العقلية أو القانون الأخلاقي.
باتت الهويات الخاصة أصل الانتظام في المجال العربي، مقابل الهوية الاجتماعية الجامعة في الغرب ذات الطبيعة الكلية التي توحد الأفراد في نسق حياتي وقيمي مشتركين. وباتت الهوية الدينية أو العرقية أو القبلية العربية مصدر أمن الفرد وأمانه وطريق حماية له من سطوة الدولة، مقابل اعتبار الدولة ملاذ الفرد في الغرب من أية صيغ ثقافية خاصة. نتيجة لذلك، لم تعد الهوية الخاصة في المجال العربي تحتاج إلى مسوغ عقلي كلي لتثبيت مرجعيتها وسيادتها، بل تكفيها شحنات وجدانية وعاطفية تملأ لاوعي الفرد، وتيار تجارب واختبارات جماعية تحقق انصهار الأفراد داخل عصبية خاصة. أي لم يعد الأساس في استمرار هذه الهويات هو قابليتها للتعميم والشمول، بل في توفيرها ملاذ أمان للفرد، وعدم قدرة الانتماء العابر للخصوصية على منافستها أو تعميقها في وجدان الفرد.
بات مجال تحقق الفرد ودائرة حمايته وأمنه هو الهوية الخاصة، وباتت الثقافة الخاصة هي المحدد الأول لتكوين وشخصية الفرد وتفضيلاته وأساس تضامناته. وهو أمر عمق الفجوة الفاصلة بين الدولة وبين المجتمع، ورسخ تخارجا بين مفهوم الحرية ومفهوم الدولة. ما سهل نشوء طوباويات تتخيل كياناً أفضل تتوحد فيه أهداف الجماعة وأهداف الفرد، وتحيل التغيير والخلاص إما إلى العزلة الصوفية التي تصر على تفاهة الواقع بكل وجوهه وتنزع إلى تحقيق الغنى الباطني الذي يعوض الفقر الخارجي، أو إلى الخيال الفلسفي (المدينة الفاضلة) الذي يطرح شروطاً تعجيزية لإقامة دولة الحق أو العدل أو السعادة، أو إلى المعجزة التي تعذر النخبة عن المبادرة إلى التغيير.
إنها طوباويات خدرت ملكة التفكير الناقد فينا، وعطلت في المجتمع طاقة التغيير وقوة الدفع الذاتية إلى الأمام.