إنها محاولة لخلق مشهد جديد. الفراغ السياسي والعجز المهيمن على العالم العربي يتيحان ذلك. محاولة جسدتها زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى سلطنة عُمان، التي حوّلت الأنظار (ولو مؤقتاً) إلى مكان آخر بعيداً عن قضية الصحافي السعودي جمال خاشقجي. عاد السجال عن تطبيع العلاقات مع الإسرائيليين، وصولاً إلى الدخول في علاقات مباشرة. استغلّ الإسرائيلي كل الظروف المحيطة بالمنطقة العربية، وترقب إيران للعقوبات الأميركية الجديدة، وانشغالها بمخاطر التحدّيات والمواجهات المقبلة، فانطلق باتجاه عُمان. تلك السلطنة التي تعتبر المعبر الإيراني للمنطقة، ونقطة تقاطع وتواصل بين الحكومات المختلفة.
منذ الحرب العراقية الإيرانية، كانت عُمان منحازة لإيران، على الرغم من انفتاحها على الأميركيين والإسرائيليين. هي من الدول التي حافظت على علاقات ممتازة مع إيران منذ أيام الشاه إلى أيام الخميني فخامنئي. هي تقع قبالة إيران مباشرة وتتشارك معها مضيق هرمز. تتخذ من نفسها صلة وصل بين المتناقضين. هذا هو الدور الذي تلعبه في ظل حاجة إيران إليها كوسيط ومعبر وصلة وصل. اختلفت طهران مع كل الدول العربية باستثناء سلطنة عُمان، ولهذا معان كثيرة. استثنائية متأتية من قدرة الدبلوماسية العُمانية على تلبية الحاجات الإيرانية إزاء القوى المتخاصمة معها، أي مع الأميركيين والإسرائيليين.
هي ليست الزيارة الأولى من هذا النوع، ففي العام 1994 زار إسحاق رابين عُمان والتقى السلطان قابوس. وفي نيسان 1996، زارها شمعون بيريز قبل أيام على اندلاع حرب عناقيد الغضب. الزيارات تزامنت دوماً مع لحظة تسويات ومفاوضات بعد إتفاق أوسلو. واليوم يبدو الأمر مشابهاً، وإن كان هناك إيحاءات باستعصاء الحلول الكبيرة في المنطقة.
لا بد أن يكون العمانيون قد حصلوا على ضوء أخضر من الطرفين، لترتيب تفاوض غير مباشر بين الإسرائيليين والإيرانيين. ثمة سوابق تؤكد هذا الاستنتاج، منها استضافة مسقط المفاوضات السرية بين الإيرانيين والأميركيين للوصول إلى الاتفاق النووي. وبما أن اللحظة الحالية هي للتوافق على رسم مناطق النفوذ في المنطقة، فأغلب الظن أن إيران تسعى للتخفيف من عداواتها، وبالتالي، من غير المستبعد أن تمهّد زيارة نتنياهو لمفاوضات سرية، في ظل مناخات توحي أن الجميع يبحث عن مخارج من الصراعات الدامية والمكلفة.
تبقى الأهمية في التوقيت اللافت. التزامن بين زيارة نتنياهو إلى عُمان ووصول وفود رياضية إسرائيلية إلى الدوحة وأبو ظبي. هل هناك من يريد الاستثمار في الأزمة السعودية للمساهمة والتأثير بصفقة القرن؟ قد يكون هذا أحد الأسباب، لكن وبلا شك ثمة ما هو أبعد. اختيار عُمان ليس بسيطاً، وهو يمكّن الأميركيين والإسرائيليين من تحقيق خرق بارز وجديد في الساحة الخليجية. باعتبارها تنتهج سياسة وسطية، ولديها علاقات جيدة مع إيران، وصلات طيبة مع كل العواصم الخليجية، ولها تأثيرها حتى داخل اليمن.
زيارة نتنياهو تحمل أكثر من معنى وغاية. لقد أتت بعد أيام على زيارة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى مسقط، وإعلان المسؤولين هناك إضطلاعهم مجدداً بدور وساطي في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية. وهذا قد يكون عاملاً مساعداً ومنشطاً على للسير في ترتيب "صفقة القرن" بعد تمنّع السعودية عن السير بها. بهذا المعنى نجد أوجه شبه كثيرة بين الدور الذي لعبته السلطنة في المفاوضات الأميركية الإيرانية للوصول إلى الاتفاق النووي، الذي كانت دول الخليج تعارضه.
إذن، المشهد الجديد يقول للسعوديين إن معارضتكم لصفقة القرن، لن تؤدي إلى تعطيلها أو إفشالها، بل ثمة بدائل ومخارج لها في ساحتكم الخليجية بالذات. وربما يكون الدور العماني أفضل من الناحية السياسية، بتوازي هذه المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية مع انفتاح باب تفاوضي إسرائيلي– إيراني، على قاعدة تبادلية بين الصفقة وصون بعض المصالح الإيرانية.
على الأرجح، الإيرانيون يطلقون مواقف منددة بخطوة نتنياهو، لكنهم عملياً سيحاولون الاستثمار في ذلك. صحيح أن الزيارة تسبب الإحراج للدولة الإيرانية التي تتعامل مع عمان كوسيط "محايد"، إلا أنها غير قادرة على تصعيد الموقف فعلياً تجاه السلطنة، كي لا تخسرها. الدليل على ذلك، أن إيران لم تخرج بموقف قاس ولا دانت الزيارة، سجّلت "ملاحظات" فقط، وتحاملت على الأميركيين، وحيّدت المسؤولين العمانيين، ولم توجه أي كلام سلبي للسلطان قابوس.
في المقابل، لا يمكن إغفال حادثة إطلاق أحد فصائل المقاومة في غزّة عشرة صواريخ ضد الاحتلال الإسرائيلي، في الليلة التي اختتم فيها نتنياهو زيارته إلى عمان. لهذه العملية تفسيران، الأول هو قطع بعض الأطراف المتضررة الطريق على مفاوضات محتملة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، والتشويش عليها قدر الإمكان. والتفسير الثاني أن تكون رسالة إيرانية، مفادها التذكير بفعالية الحضور الإيراني، وعدم استثنائها أو استبعادها من أي مفاوضات. المنطق البديهي يفيد بأن إيران من المفترض أن تكون أكثر المتضررين من زيارة نتنياهو إلى عمان، لأن ذلك عملياً يمثّل اقتراباً إسرائيلياً من مضيق هرمز، الذي لطالما هددت طهران بإغلاقه.
هذا ليس تفصيلاً هامشياً، إنه في صلب التنازع الاستراتيجي. مضيق هرمز هو عبارة عن تقاطع لتوازنات دولية عسكرية واقتصادية، ولا ينفصل جغرافياً عن الهم الإسرائيلي الأساسي الذي هو مضيق باب المندب، كمنفذ حيوي عبر البحر الأحمر، والذي يشكل أيضاً طريق إمداد المقاومة الفلسطينية الممتد من إيران (عبر هرمز) إلى جنوب البحر الأحمر (باب المندب) وصولاً إلى سيناء. كل السلاح الذي وصل إلى غزّة كان قد مرّ عبره.
المرحلة المقبلة هي مرحلة المضائق والممرات، من طريق الحرير الصيني (البري والبحري)، إلى طريق طهران- بغداد- دمشق- بيروت، كما الطريق من هرمز إلى باب المندب والقرن الإفريقي برمته. وعليه، لا بد أن ما سيمرّ من مضيق هرمز ومعبر عُمان– اليمن، سيكون ذات بعد استراتيجي حاسم لسنوات طويلة.