حدثتني الحاجة "خديجة" عن قريتها المنوَّرة، وعن تعب العمر في مشاتل التبغ والدخان، وعن شمع الأصابع الذي حفر في حقول يديها، وعن أخاديد الوجه في سراديب الوجع، وهي تعشِّب حقل العمر في أشواك القرية، وتروي عن عظامها بدمعٍ من دموع التعب، وتحدّث عن ذكرياتٍ مخبأةٍ في ذاكرة الدعاء والصلاة.. "اللهم إيماناً كإيمان العجائز، والطرق إليك يا رب بعدد أنفاس الخلايق، ألست يا رب ـ لسان الحاجة خديجة ـ أنت القائل: "والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سُبُلَنا وإنَّ الله لمع المحسنين" فالطريق إليك يا ربي ليس بحاجة إلى شيخ أو خوري، فنحن نتعب ونشقى طيلة أيام السنة والعمر وفي كل أسبوع نذهب إلى بيتٍ من بيوتك نشكرك على نعمك ونفضي لك أوجاعنا وقلوبنا، وها هم رجال دينك يبيعوننا ويبتاعوننا من قبل أن يفهموا وجعنا وفقرنا معظمهم يعيشون داخل قصورهم وأبراجهم المحمية من الشياطين ومن البطالة والديون ولا يعرفون فقراً وجوعاً ويسمحون لأنفسهم أن يعيِّروا المحتاج والمحروم، ويعظونه بالصبر وينسبون إليك يا رب من أنك إذا أحببت عبدك المؤمن زدته فقراً وبلاءاً، فأيهما أقرب إليك، أنا الحاجة الفقيرة خديجة، أم هؤلاء المختاليين..؟
إقرأ أيضًا: سجِّل أنا شيعي لبناني...!
أيهما أقرب إليك يا رب، هؤلاء أصحاب الصلبان المذهبة وأنت بعثت لنا أنبياء يحملون عصياً من خشب، والخوارنة يتحدثون بإسمك ويحملون عصياً من ذهبٍ ومرجان، من هو أقرب إليك ذاك المفتي الذي لا يتقن إلا فن التجارة معك ومعنا ومع الفقراء والبسطاء والنساء والأطفال وهو يتقاضى رواتب تارةً بإسمك وأخرى بإسمنا نحن الفقراء والأرامل والأيتام، وثالثة من مال الدولة وهو متخمٌ ليلاً ونهاراً ويملك ما يطعم أطفال حيٍ بأكمله ثم يأتينا ليعظنا بأن الدنيا جيفة وطلابها كلابها، أم نحن الفقراء الذين لا نريد من دنيا الكلاب كما وصفها وليك أمير المؤمنين علي (ع)، إلا قوت يوم، ألست أنت يا رب بعثت لنا نبينا الأكرم محمد (ص) وهو القائل ما أنا إلا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد، وها هم الشيوخ لا يعرفون قديد محمد (ص) ولا جشوبة عيش علي (ع)، وخشونة مأكلهما، بيوتهم فاخرة وفاهرة، ومسابحهم عامرة ليلاً ونهاراً، يا إلهي وسيدي وربي أليس مرسلك واحد لكنه يا رب هو الآن يبكي على بني آدم الذي إصطفيته على جميع خلقك وعلمته الأسماء كلها، وأنه قادر على فهمك رسالتك التي تطالب بعدم التفريق بين أبنائك وبين رسلك لأنَّ الوظيفة واحدة وهي الإشارة إلى إلهٍ واحدٍ جلَّت قدرتك يا رب، لكن أذهاننا نحن الفقراء كأمثالي أنا الحاجة خديجة عاجزة عن فهم ذاتك الإلهية المجردة، فلا الخوري ولا الشيخ ولا القاضي ولا المفتي عندهم مفتاح جنانك، بل هم من سيحتاجون إلى واسطة للدخول إلى جنتك..
ما إن انتهت الحاجة خديجة من مناجاتها حتى وصلت إلى مشارف ذاك الحلم من سماوات جناتها، وسبحت في سبحة الضوء الطالع من لسان صومها وصلاتها، لنرجم أصنامك يا رب، ونقرأ من سور عينها آياتك الكبرى....