تجهد قيادة «التيار الوطني الحر»، وتحديداً رئيسها جبران باسيل، لحجب صبغة «الأحادية» عن طبيعة الحزب الحديث النشأة. «الاحتفاء» بمظاهر الانتخابات واحد من أدوات الترويج لأهمّية تأثير كل فرد في الحزب. ومع ذلك، التنقيب في عمق العمل الحزبي يُثبت أنّ هذه «البروباغندا» مناقِضة للجوهر.
تجربة «التيار» في محاكاة الجمهور والتفاعل مع القواعد صارت «عتيقة»، لكنّ تجربة التنظيم الحزبي كهيكلية هرَمية مقوننة بقواعد صارمة، لا تزال طريّة العود، ولو أنّ عمرها تخطى السنتين.
قدّم الحزب نفسَه على أنه نموذجي يحاول بلوغ «الكمال» في ديموقراطيّته وريادته، أو الاقتراب منه. يقول باسيل منذ أيام «نحن الحزب الأول في لبنان، في كل شيء». هناك مَن فهم هذا «التشاطر» على أنّ التنظيم تمكّن من جذب أكبر عدد من المنتسبين (35 ألفاً)، ولكن هناك مَن فهمها أنها «مفاخرة» في كونه أكثرَ الأحزاب ديموقراطيةً وافساحاً في المجال أمام محازبيه للتعبير عن آرائهم وأنفسهم.
أما مسألة عدد المنتسبين فحمّالة وجوه، تستحقّ التدقيق إذا ما تبيّن أنّ جداول الانتسابات لا تخضع للتدقيق السنوي أو «إعادة التنسيب» ما يعني أنّ اللوائح المتّكل عليها تضمّ حُكماً محازبين منكفئين عن العمل الحزبي منذ سنوات، ولا يزالون مدرَجين على لوائح الشطب الحزبية.
لا شك في أنّ غالبية الأحزاب اللبنانية الأخرى ليست أفضل حالاً. لم تخرج من «شخصانية» قائدها أو من «عائليّتها». معظمها أسيرٌ للحالة التي يمثلها رأسُ الهرم، أو للقضية التي يحملها. هنا الأساس، أما بقية التفاصيل الحزبية فتصبح ثانوية، وأما العمل المؤسساتي المنتظم فيكاد يكون معدوماً.
بهذا المعنى يصير الاستحقاق الثاني في سلّم أولويات «التيار الوطني الحر»، أي انتخابات المجلس السياسي لـ»التيار الوطني الحر»، محطة بارزة في المسار التنظيمي، تجذب اهتمامَ «التياريين»، لا بل جميع المعنيين بالحالة العونية ومَن يدور في فلكها، مع العلم أنّ هؤلاء يتخطون عدداً، مجموع حاملي البطاقات البرتقالية.
الأحد 4 تشرين الثاني، سينتخب المجلس الوطني ستة أعضاء جدد للمجلس السياسي بعد انتهاء ولاية المجلس الحالي الذي سيكون الأقصر عمراً بين خلفائه ربطاً باتفاقٍ مسبَق يقضي بتقصير ولاية المجلس لكي لا تتضارب مواعيدُ الاستحقاقات الانتخايبة الحزبية.
إلى الستة المنتخبين، ينضمّ نوابُ الحزب الحاليون ووزراؤه، وكذلك نوابه ووزراؤه السابقون، إلى جانب ثلاثة أعضاء يتمّ تعيينُهم من جانب رئيس الحزب، وأعضاء الهيئة التأسيسية.
وفق النظام الداخلي، يجتمع المجلس السياسي دورياً، مرة كل شهر. بداية كان الموعد صبيحة أوّل إثنين من كل شهر، ثمّ صار أوّل يوم جمعة مطلع كل شهر.
نظرياً، يُفترض أن يكون المجلس السياسي «مطبخ» الحزب الفكري. على مائدته تُطهى قراراتُ الحزب وتناقش أبرز القضايا السياسية التي يواجهها وكذلك أبرز المسائل الداخلية. توضع الاستراتيجيات، أو أقله ولكن عملياً، كان المشهد مناقضاً كلياً. القيمة المضافة التي يحملها أعضاء المجلس كونهم منتخبين، لا معنى لها طالما أنّ صوت هؤلاء لا يُصرَف في أيِّ قرار.
الموعد الشهري
تحوّل الموعدُ الشهري جلسة دردشة وشرب قهوة. جدول الأعمال الموضوع من جانب الرئاسة، قبل دقائق من موعد الاجتماع، يشجّع على النقاش، لكنّ المتحمّسين على المشاغبة والمساجلة، قلّة نادرة. أما الغلّة، فغالباً ما تكون «صفراً».
يقول أكثر من مسؤول حزبي إنّ مهمة المجلس استشارية، لا تقدّم أو تؤخّر في قرارات رأس الهرم الممثل بباسيل تحديداً. كان الأخير يستعرض أحياناً ما في جعبته من معطيات سياسية، ويستمع إلى الآراء التي توضع أمامه، ولكن لا «تقريش» عملياً لأيِّ رأي أو فكرة أو طرح. وحين يتجرّأ أحدُهم على زرك رئيس الحزب في نقاش معيّن، يكون الهروب إلى حديث آخر «ثلثيّ المرجلة»، أو التذرّع بضيق الوقت... وإلّا اللجوء إلى متاهة التفاصيل.
ولعلّ هذه الدينامية «غير المنتجة» هي التي منعت خمسة من الأعضاء المنتخبين، عدم تكرار التجربة. واحد منهم فقط هو زياد نجار (مدير مكتب خدمات باسيل) ترشّح لولاية جديدة، مع العلم أنّ الأخير من المجموعة التي عادة ما تتجنّب النقاشات الحادة أو معاكسة وجهة نظر رئيس الحزب.
فيما البقية، وأبرزهم ميراي عون، انكفأوا عن الحلبة، لاعتباراتٍ لها علاقة بعدم فاعلية المجلس، خصوصاً أنّ هناك مَن راهن على قدرات تنفيذية قد يتمكن المجلس من «انتزاعها» بفعل الممارسة. وإذ برهاناته تسقط في الضربة القاضية. للإشارة فإنّ عضو المجلس نعمان مراد تقدّم باستقالته من الحزب بعد ترشّحه في الانتخابات النيابية على لائحة «القوات» في كسروان، مع العلم أنّه أبلغ أكثر من مرة إلى رئيس الحزب وقبيل الانتخابات نيّته بالاستقالة.
دورُ النواب والوزراء السابقين
يقول أحد أعضاء المكتب السياسي إنّ تركيبة المجلس تبعث في الأساس على التساؤلات حول دوره وأهمّيته. إذ إنّ مشاركة نواب ووزراء سابقين حتى لو كانوا حزبيّين تزيد من فضفاضيّته، وتحوّله ديوانية دردشة غير ذي منفعة.
فلو كان النواب السابقون ناجحين في دوائرهم لما صاروا سابقين، وإذا كانوا ناجحين ودفعوا ثمن تحالفات الحزب، فكان لا بدّ من استثمار نشاطتهم بمهمات محدّدة يكلّفهم بها رئيس الحزب، أسوةً أيضاً بالوزراء السابقين للاستفادة من طاقاتهم. ولكنّ ضمّهم، حفظاً لماء الوجه إلى المجلس السياسي، أفقد الأخير فعاليته.
يعطي عضو آخر رزمة دلائل على «خواء» دور المجلس السياسي. يكفي أنّ النقاش لم يصل مرة واحدة الى حدّ طرح أيّ مسألة مهمة أو غير مهمة على التصويت، أو أخذ رئيس الحزب برأي أكثرية الأعضاء من مسألة معيّنة. لم يحصل أن ناقش المجلس أيَّ استراتيجية مستقبلية لـ»التيار» أو خطة عمل أو منهجية... أكثر من ذلك، يقول أحدهم إنّ المتكلّمين على طاولة المجلس يكادون يكونون قلّة، فكيف بالحري المشاغبين؟
كانت ميراي عون من أكثر الشخصيات قدرةً على تصويب النقاش بموضوعية، فيما بعض النواب الحاليون كان يقدّم أحيانأً مداخلاتٍ هادئة وموزونة. لكنّ المحطات الفاقعة تكاد تكون نادرة. وشهد الاجتماع الأخير نقاشاً حاداً بين رئيس الحزب وأحد الأعضاء الذي اشتكى من عدم احترام الحزب لمبدأ فصل النيابة عن الوزارة انسجاماً مع مبادئه التي نادى بها طوال سنوات، متسائلاً عن معايير اختيار الوزراء. اللافت كان مساءلة الشخص نفسه عن الجهات المستفيدة من أسعار الفيول المستورد لتوليد الكهرباء.
الاستحقاق النيابي
ولكن في المقابل، عبر الاستحقاق النيابي بسلاسة على طاولة المجلس مع أنّه مادة دسمة للإشكالات والمناوشات، باستثناء جولات نادرة من المواجهات الكلامية، منها مثلاً حين أثار نعمان مراد مسألة ترشيحات الحزب في كسروان (عدم خضوع روجيه عازار للآلية التمهيدية)، فإنّ المشهد إختُزِل بالمستجدّات التحالفية التي كان يضعها رئيس الحزب أمام أعضاء مجلسه السياسي.
ومع ذلك كانت الجلسات لا تخلو من نقاشات حادة قد تصل أحياناً الى «اشتباكات» كتلك التي حصلت بين الوزير السابق الياس بو صعب وناجي حايك على خلفية كلام الأوّل عن الوجود السوري، مع العلم أنّ حضور حايك على طاولة المجلس لا تفصَل عن إطلالاته المشاغبة عبر المنابر الإعلامية.
رغم ذلك، يقول أحد الأعضاء، إنّ وظيفة المجلس لا تُختصر بصلاحياته، ولا بقدرته التأثيرية في قرار القيادة فقط، وإنما بدوره السياسي منبراً يمكن لإعضائه استثماره للتعبير عن وجهة نظر الحزب عبر وسائل الإعلام، أسوة بالنواب والوزراء. هنا أيضاً، أخفق كثيرون من أعضائه في ملء هذا الفراغ.