سوريا تحت الانتداب.. شاء مَن شاء وأبى مَن أبى. لو كان انتداباً من دولة واحدة، لهانَ الرفض والنضال والمقاومة حتى تتحقق إزالته. في سوريا، الجريحة والممزقة اليوم وإلى فترة طويلة، انتداب من أربع دول إقليمية ودولية كبرى. مصالحها متضاربة وأحياناً متصارعة هي: روسيا، إيران، تركيا والولايات المتحدة الأميركية الموجودة منذ فترة طويلة، لكنها قبل أربعة أيام فقط، وبعد تكتّم طويل، اعترفت بأنها موجودة، وأن لها قاعدة جوية ضخمة في «التنف» الواقعة جنوب شرقي سوريا.
الإعلان الرسمي للوجود العسكري الأميركي في سوريا، جاء كما اعتاد الأميركيون وسط «طنّة ورنّة»، توحي بالقوة والاستعداد لأي مواجهة. الجنرال جوزيف فوتيل، قائد عمليات الجيش الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، زار قاعدة «التنف» الموجودة في جنوب شرقي سوريا، وتجوّل فيها مع صحافيين اصطحبهم معه ستّ ساعات، وهذه القاعدة كما هو معروف ليست يتيمة، إذ يُوجد غيرها.
لكن قاعدة «التنف» استراتيجية لأنها جويّة وتقع على «الطريق التي تربط بين مواقع القوات المدعومة إيرانياً في سوريا بجنوب لبنان وحدود إسرائيل». الجنرال فوتيل قال للصحافيين الذين رافقوه حيث منعهم من بثّ تواجده حتى مغادرته القاعدة لأسباب أمنية: «أُقرّ بأنّ تواجدنا وتطويرنا لشركائنا والعلاقات هنا لديها تأثير غير مباشر على بعض الأنشطة الخبيثة التي تسعى إيران ووكلاؤها إلى ممارستها».
ما تسرّب بعد الزيارة قليل. أبرز ما جاء حولها، أنّ الجنرال فوتيل، «وعَدَ بإيصال كمية كبيرة من السلاح لمجموعات عددها بالمئات من المعارضة السورية»، وطلب من جنوده وهم بالمئات «الاستعداد لأداء مهمّتهم بقطع الطريق البرّي الإيراني». وقد تزامنت الزيارة العسكرية والتسريبات، مع زيارة جون بولتون مستشار الأمن الأميركي لموسكو ولقاءاته الموسّعة مع «القيصر» فلاديمير بوتين ووزير الدفاع الروسي الجنرال سيرغي شويغر. وقد دعا بولتون «صقر الصقور» في الإدارة الأميركية، الروس إلى «الانتباه لتصرفات إيران في سوريا وفي منطقة الشرق الأوسط برمّتها».
هذه اللقاءات والاتصالات المُكثّفة، والتي من الواضح أنه ستتبعها لقاءات أهم، حيث من المُنتظر لقاء قمّة بين بوتين وترامب في باريس في الشهر القادم، وقبل ذلك قمّة بين زعماء روسيا وتركيا وفرنسا وألمانيا لبحث الملف السوري، أو كما قال ديمتري بيسكوف إنها «منصّة جديدة لضبط الساعات وإيجاد مجالات للعمل». وما ذلك إلاّ لأنّ جميع المجتمعين لا يتوقّعون صياغة حلول، فما زال الوقت مبكراً على ذلك. اقتسام سوريا يتم على الأرض، وهذه العملية ستأخذ وقتاً طويلاً، لأن الكل مصاب بـ«الشراهة» ويعتبر نفسه أحقّ من الآخرين بالحصول على حصة «الأسد»، لأنه «دفع ثمناً غالياً من المال والأرواح».
في هذا المسار المتشعّب، يبدو الموقف السوري – الأسدي من نوع المضحك – المُبكي.
وزير الخارجية وليد المعلم قال للمبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا الذي يستعد للراحة من هموم سوريا التي لم ينجح في معالجتها، «إن الدستور شأن سيادي». فالوزير المعلم لا يقبل بأي تدخل في صياغة الدستور السوري الجديد، علماً أن لا أحد يستشيره وإنما يُبلّغه. وفي الوقت الذي يريد الدستور على مقاس الأسد ولا أحد غيره، تقول موسكو: «الإصلاح الدستوري هو الاتجاه الوحيد للتسوية». باختصار شديد للمعارضة السورية وجود في لجنة صياغة الدستور سواء رفض أو تمنّع الأسد ووزيره المعلّم. لذلك كله يبدو الموقف السوري الرسمي معلّقاً على تخيّلات باستقلال سوريا أو امتلاك الرئيس بشار الأسد القرار المستقل، مع أن الواقع يؤكد عكس ذلك. لأن الروس لا يطلبون إذنه عندما يأتون ويغادرون سوريا، ولا يسمحون له حتى بحضور أو مشاركة الرئيس بوتين جولاته العسكرية داخل سوريا. أما الأميركي فإنه يحضر ويذهب من دون إبلاغ أحد غير الروسي عبر هيئات التنسيق بينهما.
تبقى إيران عقدة العِقد.. ربما لأنها هي التي دفعت الأكثر من خزينتها وأرواح جنرالاتها و«حزب الله» وميليشياتها الشيعية. وهي تحاول جاهدة أخذ ما تعتبر حقاً من حقوقها. لكن غرقها في مستنقع المواجهة مع واشنطن يُعطّل كل مشاريعها. وهي حالياً القوة التي تعيش حالة من التخبط غير المسبوقة. فهي لا تريد حرباً لا محدودة ولا شاملة مع الأميركيين، ولا يمكنها في الوقت نفسه عقد صلح مع واشنطن، لأنه مطلوب منها التراجع عن خططها في الهيمنة على الشرق الأوسط. خصوصاً أن مشروع هيمنتها يصطدم إلى جانب الأميركيين مع تركيا وإسرائيل، وهي أيضاً لا تريد اللعب مع «كرة النار» التي من الصعب جداً التعامل معها مهما بلغت بها الحذاقة والقوة.
أصعب ما في الأمر أن طهران تستعد لمواجهة قيود المقاطعة الأميركية، وهي قلقة جداً من تطورات الداخل والخارج معاً. هذا الوضع غير المسبوق في حدّته، يدفع القيادات العسكرية في «الحرس الثوري» إلى تضخيم قوته بحيث يخال المتابع أن البحرية الإيرانية قادرة على إغراق الأسطول الأميركي في دقائق، وتدمير إسرائيل في سبع دقائق ونصف إلخ.. علماً أن كل ذلك نفخ لعضلات «ابن عشر سنوات» ليواجه في الملاكمة المنشودة محمد علي كلاي.
مقابل هذا التصعيد الخطابي العسكري، لوحظ لأول مرة وأثناء التحضيرات غير المسبوقة لأربعينية الإمام الحسين في كربلاء، التي يُشارك فيها حوالى مليون ونصف المليون إيراني، ورود مقال في وكالة «فارس» مرفق بطريقة نادرة، بصورة فقيرة ومُحزنة لضريح الإمام الحسن. المقال المثير بعنوان: «كيف أحبط الإمام الحسن فتنة معاوية بمعاهدة الصلح»؟
السؤال الكبير الذي تواجهه القيادة في إيران: كيف يمكنها تجاوز الأزمة مع الولايات المتحدة الأميركية والسعودية؟ وهل يمكنها عقد الصلح على غرار الإمام الحسن، أم تتابع المواجهة على مثال الإمام الحسين وتكون النتيجة الاستشهاد؟
وإذا كانت القيادة مستعدّة للاستشهاد فماذا عن الشعب الإيراني؟