إغلاق الأجواء السورية أمام المقاتلات الإسرائيلية منذ السابع عشر من تشرين الأول (أكتوبر) أتاح للإيرانيين وميليشياتهم فترة هدوء كانوا في أمسّ الحاجة إليها، بعد مرحلة هجمات شبه يومية اشتدّت منذ منتصف نيسان (أبريل) الماضي وتعرّضوا خلالها لضربات موجعة وخسائر كبيرة لم يعترفوا بها، ما استوجب الحذر والاستنفار الدائم، فضلاً عن اضطراب في مواقعهم وتحركاتهم ومخططاتهم. وعلى رغم أنهم استطاعوا دائماً تعويض الخسائر، سواء كانت بشرية باستدعاء مزيد من العراقيين والأفغان أو مادية بإحضار معدّات عسكرية بديلة، إلا أنهم اضطرّوا لتغيير خريطة انتشارهم بين الجنوب الغربي ودمشق ومحيطها، متكيّفين مع ما أدركوه من تواطؤ روسي - إسرائيلي، خصوصاً أن استهدافهم كان متزامناً مع ضغط روسي لاستعادة محافظتَي درعا والقنيطرة إلى سيطرة النظام.
يتنقّل الإيرانيون حالياً بسلاسة وثقة بين مناطق انتشارهم، واستناداً إلى مصادر ميدانية فإنهم يتوسّعون، بل إنهم عادوا إلى مناطق في الجنوب أُعلن سابقاً أنهم انسحبوا منها بطلب من القيادة الروسية. كما أن حركة نقل الأسلحة أصبحت أقلّ اهتماماً بالتمويه وأكثر سرعةً لاستباق أي نهاية مفاجئة لهذه «الهدنة» المستقطعة. كانت موسكو ذكرت في حيثيات اجراءاتها للردّ على إسقاط طائرة «اليوشن 20» أن ليس هناك خطر على أمن إسرائيل ولم تعد الضربات الجوية مبرّرة بعدما أبعدت إيران ميليشياتها وآلياتها من الجولان إلى داخل سورية بـ «عمق 140 كيلومتراً». لكن الإسرائيليين جدّدوا لمناسبة إعادة فتح منفذ القنيطرة التشكيك في هذا الانسحاب، فالإيرانيون لا يزالون يتحركون إلى جانب قوات النظام وبزيّ جنوده في مختلف المناطق، وقد أنشأوا أخيراً قاعدتين عسكريتين إحداهما في اللجاة في نواحي درعا والأخرى في المزّة في دمشق، إذ ورثوا معسكراً لـ «سرايا الدفاع» التي كانت تابعة لرفعت الأسد.
تعتقد طهران أن الوضع «المريح» الراهن ليس مرشحاً لأن يتغيّر قريباً، أو في الأقل ليس قبل حصول تحسّن ما في العلاقات الأميركية - الروسية ربما يعيد الضربات الإسرائيلية، لكن هذا الاحتمال يبقى ضعيفاً بسبب ازدياد الخلافات في شأن سورية. ولا يبدو فلاديمير بوتين متعجّلاً اللقاء مع بنيامين نتانياهو، وإذا التقيا فإن ظروفهما تبدّلت ولم يعد متوقّعاً أن يعيدا العمل بتفاهماتهما السابقة ذاتها. فمن جهة، يعتبر بوتين أنه أوفى بكل التزاماته تجاه إسرائيل وأمنها، لكن الأولويات التي يعمل عليها الآن في سورية تتطلّب مراجعة التوازنات على الأرض ومواصلة التنسيق مع إيران. ومن جهة أخرى، استغلّت إسرائيل التفاهمات مع بوتين لتحقيق أكبر قدر من المصالح، أما توظيف عملياتها العسكرية في إطار الاستراتيجية الأميركية لاحتواء إيران والعمل على إخراجها من سورية فيفترض تبنّياً روسياً لتلك الاستراتيجية، وهو ما لا يبدو متوفّراً. ففي مداخلته الأسبوع الماضي في «منتدى فالداي»، كان بوتين واضحاً بقوله أن إخراج إيران ليس مهمة روسية «مئة في المئة»، ما يعني في أقل تقدير أنه لم تُعرض عليه أي صفقة في هذا الشأن.
إذا كان هناك أي انسحاب إيراني من دمشق ومحيطها وامتداداته الجنوبية فهو شكلي وإعلامي فحسب، ويكذّبه الشهود على الأرض. ومع افتراض أنه حصل فإن انتهاء الصراع المسلح في تلك المناطق لم يعد يستدعي وجوداً عسكرياً بل مدنياً لتعميق التغلغل في المجتمع، وفي السياق نفسه يمكن التظاهر بالرضوخ للرغبات الروسية. لذلك، انتقل زخم الوجود الإيراني حالياً إلى مناطق الشمال، وجود كثيف وملحوظ في معظم نواحي حمص وجنوب الرقة امتداداً إلى جنوب دير الزور، وطبعاً في محيط إدلب، لكن خصوصاً في شرق حلب، حيث أنشأ الإيرانيون منذ 2017 «قوات الدفاع المحلي» التي يؤطّرون فيها ميليشيات محلية تضم خليطاً من عسكريين ومدنيين متعسكرين ويربطونها بقوات النظام من خلال حل الإشكالات الناجمة عن تخلّف عشرات الآلاف عن الخدمة العسكرية أو هروبهم منها. وفي ذلك يتّبع الإيرانيون مساراً خاصّاً ومختلفاً عن ذلك الذي رسمه الروس لضم الميليشيات من خلال الفيلقَين الرابع والخامس اللذَين يتولّى ضباط روس قيادتهما الفعلية. وقد عمل الإيرانيون على اختراق العشائر السنّية، مستنبطين بعض التوليفات العقائدية كما فعلوا مثلاً بتعميم «الصلاة على روح محمد الباقر» لاستمالة عشيرة البقارة، وبنشر الحسينيات وترميم مقابر قديمة لجعلها مقامات ومزارات. وإلى مساهمتهم في إغاثة الفقراء وترغيب الطلاب بالالتحاق بجامعات إيرانية، يُنظر إلى عمل «الخبراء المدنيين» على أنه أخطر من أولئك العسكريين، إذ إنهم يشرفون خصوصاً على سيرورة التغيير الديموغرافي، وقد سجّل أخيراً بضع مئات من حالات التهجير القسري من حمص وحلب وحتى من الميادين بإخراج السكان السنّة عنوةً من منازلهم لإسكان أفغان بدلاً منهم.
المؤكّد أن ممارسات إيران وميليشياتها، بتسهيلات من النظام وتنسيق موثّق مع أجهزته، لا تشكّل عاملاً مساعداً للخطط الروسية سواء لإنهاء الصراع في سورية أو لإعادة اللاجئين أو لاجتذاب المساهمات الغربية في إعادة الإعمار. كما أنها، من جانب آخر، لا تمكّن الروس من ضبط النفوذ الإبراني في الحدّ الأدنى، بغية إيجاد توافقات مع الأميركيين. ففي الشهور الأخيرة، اضطر الروس إلى نشر عشرات نقاط المراقبة بالقرب من مواقع إيرانية بعدما تسبّبت نشاطات الميليشيات بإشكالات خطيرة على المعابر النهرية في دير الزور. وسجّل بعض التقارير حملات روسية لنزع سلاح ميليشيات محلية يدعمها الإيرانيون، كما في بلدتي الحسينية والطابية في الريف الشرقي لدير الزور. وإذ تبقى المناطق الحدودية مع العراق نقاط توتر ساخنة نظراً إلى سعي الميليشيات الإيرانية إلى الهيمنة عليها من الجانبين لتأمين «ممر طهران - بيروت»، يجد الأميركيون والروس أنفسهم أمام وضع يتطلّب ترتيبات استثنائية تبدو ظاهرياً متعارضة لكنها متكاملة فعلياً. فالأميركيون ماضون في تطوير عملية انتشار واسعة في محيط مدينة القائم العراقية، أما الروس فينفّذون خطة انتشار شاملة في منطقة البوكمال والميادين ومحكان «لإنشاء نقاط مراقبة وردع» (وفقاً لـ «المرصد الاستراتيجي»).
لا يزال المراقبون يعتبرون أن أي مواجهة جدّية بين الولايات المتحدة وإيران، على خلفية تشديد العقوبات واستراتيجية الاحتواء، لا بدّ أن تحصل في العراق، حيث تقدّر طهران أن «طرد الأميركيين» ممكنٌ وأنه يشكّل ضربة موجعة. غير أن عوامل عدّة قد تجعل هذا الهدف متعذّراً، منها خريطة الانتشار الأميركي في العراق وارتباط الجيش العراقي به، كما أن التموضع الأميركي يتواصل عملياً مع الشمال الشرقي السوري وبات موظّفاً - بحسب أحدث المواقف في واشنطن - لمحاربة الإرهاب بشقَّيه المرتبطَين بالتنظيمات مثل «داعش» وبإيران وميليشياتها. لكن احتمالات المواجهة في سورية برزت أخيراً باعتبارها أكثر ترجيحاً، خصوصاً أن روسيا وإيران ونظام بشار الأسد متفقون على «خروج القوات الأجنبية من سورية». وبما أن الروس والإيرانيين موجودون بطلب من النظام، وأن الأتراك موجودون برغبة روسية، فإن الأميركيين هم المعنيّون لأنهم وجودهم «غير شرعي». لكن التصوّر الذي يعرضه بوتين مبنيٌّ على «خروج» بالتوافق وليس بمواجهة. هذا لن يمنع الإيرانيين ونظام الأسد من إشعال مواجهة، مستندين إلى التبنّي الروسي لاستعادة النظام السيطرة على كل المناطق السورية.
لكن القتال ضد الأكراد في الشمال الشرقي سيكون مغامرة غير مضمونة النتائج في وقت بات الأميركيون أكثر تصميماً على البقاء عسكرياً في سورية. وفي المقابل، تغيّرت طبيعة معركة إدلب كلياً، فقبل اتفاق سوتشي كانت ضد فصائل المعتدلين والمتشدّدين، أي ضد «الإرهابيين» بلغة النظام وحلفائه، أما الآن فإن القتال سيكون ضد الجيش التركي الذي دفع بحوالى عشرة آلاف جندي ومئات الآليات العسكرية إلى المنطقة المنزوعة السلاح. وعلى رغم اتفاق سوتشي، زاد الأسد والإيرانيون حشدهم ومناوراتهم واستفزازاتهم، ولا يزالون يستعدّون لمعركة لم يفقدوا الأمل بخوضها. ذاك أنهم يستشعرون تجميد الوضع في إدلب كما لو أنه تجميد للصراع السوري عند النقطة التي بلغها حالياً، بالتالي كما لو أنه هزيمة لخططهم. والأسوأ، في نظرهم، أن اتفاق سوتشي بُني على أساس «تفعيل الحل السياسي» وهو أمر لطالما اعتبروه خطراً ما لم يحقّقوا كل أهدافهم العسكرية.