كما عشيّة كل استحقاق انتخابي أميركي، دخل العالم برمّته في لحظة العدّ التنازلي للانتخابات النصفية الأميركية، ودخل أحد الأجزاء الأكثر هشاشة من هذا العالم، منطقة الشرق الأوسط، في مجرى تصريف هذه "الطاقة الانتخابية التنافسية" التي يفصلنا عنها بحر ومحيط وآلاف الكيلومترات. هذا مع ان انتكاسة التجارب التوطيدية للديموقراطية وتراجع الحريات في السنوات الأخيرة هو معطى اجمالي في منطقة الشرق الأوسط، حاضر ولو بتفاوت. كما ان الانتخابات النصفية الأميركية تُخاض على أرضية برامج داخلية إلى أبعد حدّ، وحول قانون الرعاية الصحية والسياسة الضريبية والسياسة بإزاء الهجرة والمهاجرين، وحين يحضر الموضوع الخارجي، فهو يتعلّق بالسياسة الواجبة تجاه روسيا ثم الصين قبل التطرّق الى موضوعات الشرق الأوسط.
مع هذا، استحقاق الانتخابات النصفية في السادس من تشرين الثاني المقبل هو استفتاء أميركي بامتياز، مع أو ضد دونالد ترامب، أكثر من أي شيء أو اعتبار آخر. بعد عامين على وصوله الى البيت الأبيض يخوض دونالد ترامب معركته المفصلية بامتياز وهو رئيس، معركة تُمكّنه، والحزب الجمهوري، من الحفاظ على الأكثرية التي لهم في مجلسَي الشيوخ والنواب في الكونغرس، ومن بعدها يبدأ العدّ التنازلي لانتخابات 2020 الرئاسية.
ومع أو ضد ترامب تُعيد إدخال "العالم الخارجي" الى الانتخابات الاميركية، كون العالم صار أكثر شبهاً بدونالد ترامب في العامين المنصرمين. صحيح أن ترامب ووجه بملف العلاقة بين مديري حملته الرئاسية وبين الروس للإضرار بهيلاري كلينتون، وبغير ذلك من الملفات، لكن التركيز على عزله، أو دفعه الى التنحّي، باء بالفشل طيلة العام المنصرم، والأهم، لم يحدث شرخ في العلاقة بين ترامب والحزب الجمهوري، بالعكس، رغم التوترات والتناقضات بين ترامب ومجموعات في الحزب الجمهوري، الا انه استطاع ان يبني علاقة مريحة له مع الجمهوريين، والجمهوريون يتعاملون مع الحفاظ على ترامب انه ضرورة لحزبهم، لأنه إذا سقط سقطوا معه، ودفعوا الكلفة أضعافاً، مثلما ان شعبية ترامب لم تتراجع بالشكل الذي كان من الممكن أن يوسّع من مروحة الضغوط عليه.
يُدرك، حتى الذين يُرجّحون زيادة في التصويت لمرشّحي الحزب الديموقراطي في هذه الانتخابات النصفية، أنه من الصعب أن يخسر الجمهوريون الأكثرية التي لهم في المجلسَين، ولو حدث ذلك لكان مفاجئاً للغاية، لكنه يحتاج الى تبدّل واسع في عمق الرأي العام الأميركي وليس هناك مؤشّرات كافية على ذلك، رغم ضراوة شعارات الديموقراطيين التي استحضرت مفهوم "المقاومة" بالضد من دونالد ترامب، باعتباره خطراً شعبوياً على المواطنية والمؤسسات في الولايات المتحدة الاميركية، ينبغي مواجهته ومحاصرته.
الاستقطاب حول ترامب، معه وضده، صار أكثر حدّية في الولايات المتحدة، مما كان عليه الحال قبل عامين. الانتي - ترامبية تكاد تختصر كل منطق الديموقراطيين في خوض النزال، فيما هم يفتقدون حالياً زعامة قيادية كاريزماتية راهنة تخوض المعركة، ويكتفون باستحضار شخصيات "متقاعدة" إن أمكن التعبير، مثل بل وهيلاري كلينتون وباراك أوباما. أما الجمهوريون، الذين كان قسم منهم متردّداً في دعمه ترامب قبل عامين، فإن صورته كقائد لهم باتت أقوى، بخلاف كل ما كان متوقعاً، وهذا لم ينجح فيه لا جورج بوش الأب ولا جورج بوش الإبن. بكل مفارقة ذلك، ورغم الاختلاف البيّن بين الشخصيتين، نجح ترامب في رسم أكثر من علامة فارقة في تاريخ الجمهوريين منذ وصول رونالد ريغين الى البيت الأبيض مطلع الثمانينيات.
الصعود والهبوط الفجائيان حيال كل الملفات الخارجية، لازمة اساسية في سياسة ترامب الخارجية. هي "إيقاع"، أكثر منه "سياسة". من سمات هذا الإيقاع ان الرجل كثيراً ما يعتمد الخلط بين معهود الكلام تجاه من يصنّفهم هو أخصام، ومعهود الكلام تجاه من يصنّفهم حلفاء. ثابت واحد في السلبية المتراكمة عند ترامب، هو في موقفه من إيران، وبرنامجها النووي، وسياستها في الشرق الأوسط. هنا، لا يستخدم إيقاعه المتبدّل بسرعة، وإنما تكرار نفس الافكار التي عبّر عنها يوم كان مرشحاً للرئاسة، وعند كل عتبة بشكل أكثر حدّة من قبل.
بالنسبة الى موضوعات الشرق الاوسط، علاقتها بالانتخابات النصفية تنقسم الى شقّين. من ناحية، هي تؤثّر فرعياً، طالما ان الاستفتاء يكاد يختصر اميركياً الى مع أو ضد ترامب. من ناحية ثانية، نتائج الانتخابات النصفية ستنعكس مباشرة على الشرق الاوسط. اذا تراجع الجمهوريون شيء واذا حافظوا على حجمهم او زادوا شيء آخر. هل يعني هذا ان الملف الإيراني على محك تطبيقي في فترة ما بعد الانتخابات؟ هل يرتفع الاهتمام بالملفات والقضايا الأخرى التي مسرحها منطقة الشرق الأوسط على حسابه؟ واهم من لديه إجابات مسبقة الآن، لكن الطابع "الثابت" لمشكلة ترامب مع إيران، مقارنة بالإيقاع المتبدّل للقضايا والمواقف الأخرى، لا يمكن تنحيته جانباً في اي لحظة، وبالأخص في الفترة التي تُدشّن بالانتخابات النصفية، وتستمر الى الانتخابات الرئاسية المقبلة بعد عامين.