قد يصبح مشهد الكاتب المنغلق على نفسه في غرفةٍ ضيّقةٍ والذي يدخل في معركةٍ بين العقل والقلب لجعل الكلمات تخرج بسلاسةٍ على الورقة البيضاء من الماضي الجميل إذ من المحتمل أن يصبح الذكاء الاصطناعي هو الذي يقود عملية الكتابة في المستقبل القريب.
لا شك أن الأجهزة الإلكترونية قد استحوذت على معظم الأنشطة المستقاة من الحياة اليومية، فالروبوتات المتطورة مثلاً تساعد المرء على الطبخ والتنظيف وغيرهما من الأمور التي تندرج ضمن الروتين اليومي للإنسان لدرجة أن الاستغناء عن مثل هذه الأجهزة بات من الأمور المستحيلة، غير أن التطور التكنولوجي لم يتوقف عند هذا الحدّ لأن الذكاء الاصطناعي قد دخل أيضاً "معترك" الكتابة وباتت البرمجة تنخرط في عملية تأليف الروايات.
منذ أن ظهر فجر الروبوتات، تعالت بعض الأصوات المعارضة والتي تعتبر أن البشرية تقوم بتدمير نفسها عن قصد أو عن غير قصد، من خلال ابتكار مثل هذه الآلات المتطورة، وقد أعربت الأغلبية عن تخوّفها من أن يتمكن الذكاء الاصطناعي من التفوق على الذكاء البشري، الأمر الذي يعزز من هاجس أن تغلب الروبوتات القوى العاملة البشرية في مختلف المجالات.
ففي العام 2016 على سبيل المثال، تم شحن حوالي 34000 روبوت صناعي إلى أميركا الشمالية، وقد كشفت شركة PwC الاستشارية أن الروبوتات قادرة على الاستحواذ على 40% من الوظائف في الولايات المتحدة الأميركية بحلول العام 2030.
وفي حين أن عمل الروبوتات بقي لفترةٍ طويلةٍ محصوراً بتأدية بعض المهام التي تقوم بشكلٍ خاص على المجهود البدني، إلا أنه في ظل هذا التطور التكنولوجي غير المسبوق، قامت الروبوتات بـ"انتفاضة" ووسّعت مجالاتها لتشمل حتى الكتابة، وهو مجال قائم في الأساس على الفكر والإبداع، خاصة إذا كنا نتحدث عن كتابة الشعر والرواية.
فقد قام العلماء من IBM Research في أستراليا وهم من جامعتي ملبورن وتورنتو بتطوير روبوت قادر من خلال الذكاء الاصطناعي على نظم الشعر. يقول الباحث "جاي هان":" عندما بدأنا المشروع، كان سؤال البحث: كيف نبني آلات بإمكانها إنتاج سردٍ متماسكٍ يمتد على جملٍ متعددةٍ، واعتقدنا أن الشعر هو مكان جيد للانطلاقة".
إعادة تعريف الإبداع
في روايته الجديدة، يستعين الروائي "روبن سلون" بمعاونٍ جديدٍ وهو جهاز الكمبيوتر، وفق ما ذكرته صحيفة "نيويورك تايمز".
ولعلّ الصورة النمطية السائدة بأن مؤلف الرواية هو شخصٌ يكافح بمفرده في غرفةٍ، متسلّحاً فقط بالتصميم والإلهام، قد تكون فكرة قديمة، إذ أوضحت الصحيفة أن "سلون" يكتب كتابه بمساعدة برنامج، صُمم في المنزل، يُنهي الجمل بالضغط على مفتاح Tab.
وبالرغم من أنه من السابق لأوانه كثيراً إضافة "روائي" إلى القائمة الطويلة للوظائف التي سيقضي عليها الذكاء الاصطناعي، بحسب ما أكدته الصحيفة الأميركية، إلا أنها إستطردت بالقول إنه في حال شاهدتم سلون في عمله، "فسيتضح لكم سريعاً أنَ البرمجة على وشك إعادة تعريف الإبداع".
وقد نال الروائي سلون الإشادة بعد كتابه الأول Mr. Penumbra’s 24-Hour Bookstore، واللافت أن "روبن" يؤلف عن طريق كتابة مقتطفاتٍ من النص، ليقوم بعدها بارسال هذه الأجزاء إلى نفسه كرسائل ومن ثم يحوّلها إلى فقراتٍ أطول.
وعن كيفية اتخاذ الكمبيوتر مساعداً له في الكتابة، تشير الصحيفة إلى أنه في غرفته الفوضوية في مجمعٍ صناعي قريب، جلس "سلون" للعمل على توسيع فكرته المقتضبة، فكتب: "تجتمع البيسون حول الوادي"، ولكن ماذا عليه أن يكتب بعد ذلك؟ ضغط على مفتاح Tab، فأصدر جهاز الكمبيوتر صوتاً، وبعد أن حلل الجمل القليلة الأخيرة، أضاف عبارة "تحت السماء الصافية".
وقد أحب سلون هذه الجملة، وعلّق على ذلك بالقول: "هذا أمرٌ رائع. هل كنت سأكتب سماء صافية بنفسي؟ ربما نعم وربما لا".
وبعدها انتقل الكاتب إلى جملةٍ أخرى: "كانت البيسون تسافر لمدة عامين ذهاباً وإياباً"، وضغط مجدداً على زر Tab فاقترح الجهاز عليه العبارة التالية:"بين النطاق الرئيسي للمدينة"، فقال سلون: "لم يكن هذا ما أفكر فيه على الإطلاق، لكنّه مثيرٌ للاهتمام"، وأضاف:" تظهر اللغة الجميلة وأنا أوافق عليها".
الروبوت: معاون الكتّاب أم بديل منهم؟
لا يمكن تصنيف برنامج "سلون" سوى أنَه أحد ابتكارات الذكاء الاصطناعي. فالآلة تتعلم وتسهّل عليه صياغة عباراته وخياله الخاص، وعلى مستوى معيّن، هي فقط تساعده على القيام بما كان يفعله الكتاب الجدد دوماً: إغراق أنفسهم في أعمال أولئك الكتاب الذين يرغبون في محاكاتهم، فعلى سبيل المثال، سعى "هانتر تومسون" لكي يكتب بأسلوب "فرانسيس سكوت فيتزغيرالد"، فقام بإعادة كتابة رواية The Great Gatsby عدة مرات لتحقيق هذا الهدف.
وقبل ربع قرن، استخدم مستشار في المراقبة الإلكترونية، يدعى "سكوت فرينش"، جهاز ماك يتمتع بإمكاناتٍ فائقةٍ، بغية محاكاة روايات "جاكلين سوزان" الملأى بالجنس، واللافت أن "فرينش" أتبع نهجاً مختلفاً عن نهج سلون، إذ كتب آلافاً من القواعد المشفرة بالحاسوب والتي تقترح كيف بإمكان أنواع الشخصيات المختلفة من أعمال سوزان أن تتفاعل بشكل معقول.
غير أن الأمر استغرق 8 سنواتٍ لإنهاء الرواية، ما دفع "فرينش إلى القول بأنه كان بإمكانه أن ينتهي منها بنفسه في عامٍ واحد فقط، وأما بالنسبة إلى روايته Just This Once فقد عُرضت للبيع، وهو إنجاز كبير في ذاته، رغم أنها لم تضاه نجاح رواية Valley of the Dolls لسوزان، في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً.
وبالإضافة إلى مشكلة الوقت، فإن البعض يعتبر أن الذكاء الاصطناعي يفتقر إلى عامل الإبداع، وهو أمر أكده موقع "Business Matters" من خلال التشدد على أن الذكاء الإصطناعي هو تقنيةٍ مدمّرةٍ قد تستبدل الإنسان في المستقبل إلا أنه في مجال الكتابة، فإن المحتوى الجيّد يجب أن ينطوي على "لمسة إنسانية" وهو الأمر الذي يميّز البشر عن سائر الكائنات على الأرض:
"لسنا قادرين فقط على التعبير عن العواطف من خلال الفن، بل نستطيع استحضارها أيضاً"، وأضاف:" نحن البشر مخلوقاتٌ عاطفية، والفنون ما هي سوى تعبير عن إنسانيتنا، كما أن التجارب التي نواجهها في الحياة هي التي تشكل شخصياتنا"، وعليه استبعد الموقع فكرة أن يقوم الذكاء الاصطناعي بالاستحواذ على مجال الكتابة خاصة أنه يفتقر إلى الحسّ العاطفي وإلى المقاربة الجيّدة التي تستند إلى التجارب الحياتية.
الجدير بالذكر أن أحد كتّاب الخيال العلمي من منطقة خليج سان فرانسيسكو، قد توّقع قبل فترةٍ طويلةٍ، الوقت الذي سيترك فيه الروائيون مهمة التأليف لـ"الآلات الكاتبة" الحاسوبية، وفي كتاب "The Silver Eggheads" الذي صدر في العام 1961 لفريتز ليبر، يتحدث هذا الأخير عن بعض الأحداث التي قد تحصل في المستقبل، ذاكراً وجود روائيين يقضون وقتهم في "تلميع" الآلات و"سمعتهم"، وعندما يحاولون التمرّد وسحق الآلات، يجدون أنفسهم قد نسوا كيف تتم عملية الكتابة.