ما دام اللبنانيّون تغيّروا، يُفترضُ بهم أنْ يَبنوا دولةً تُشبِه وجوهَهم الجديدة. لا مقدَّساتٍ سوى الإنسانِ والأمنِ والحرية. وما دام المحيطُ العربيُّ تبَّدل، يُفترض باللبنانيّين أيضًا أنْ يتعاطَوا مع مكوّناتِ الشرقِ الأوسط الصاعِدة حسبَ مدى فائدتِها (مقالتي 15/10/2018).
خِلافُ ذلك يُوقِعنا في غُربةٍ مع الذات ومع الآخَرين، وهو هروبٌ من الحقيقةِ لا يؤثّرُ على مجرى التاريخ. وحدَها حربٌ إقليميّةٌ كبيرةٌ يَخرجُ منها منتصِرٌ ومُنهزِمٌ تُعيدُ عقاربَ الزمنِ إلى الوراء. لكنْ، مَهلًا، إنَّ جميعَ الحروبِ التي وَقعت في الشرقِ الأوسط منذ سبعينَ سنةً هي التي أدّت إلى المعادلاتِ الجديدةِ القائمةِ في لبنانَ والمِنطقة، لاسيّما منذ حربِ العراق سنةَ 2003، مرورًا بحربِ لبنان سنةَ 2006، وصولًا إلى ثوراتِ «الذُبولِ العربي».
الخريطةُ القيدُ الرسمِ ليست نتاجَ الصُدفة. هي جُزءٌ من استراتيجيّةٍ إقليميةٍ/ أجنبيّةٍ تقومُ على خلقِ شرقٍ أوسطَ متعدِّدِ الأطراف قابلٍ للانفجارِ «غُبّ الطلَب».
لقد نُقِلَ الشرقُ من «الاستقرارِ العسكريِّ» إلى «الفوضى الخلّاقة» بين الأنظمةِ والشعوب، إلى «فوضى الخِلافَة» بين السُنّةِ والشيعة، إلى «فوضى الخِيارِ» بين المسيحيّين أنفسِهم، فإلى «فوضى المقدَّسات» بين إسرائيل والمسيحيّين والمسلمين.
ورغمَ السقفِ الإعلاميِّ العالي، الكلُّ قابِلٌ بالكلّ وما الاختلافُ سوى على ترسيمِ حدودِ الفوضى. حتى إسرائيلُ تتعايشُ مع «حزبِ الله» في الجنوب لا في الجليل، ومع إيران في بغداد لا في دمشق، ومع السعوديّةِ في الخليجِ لا في الشام، ومع تركيا في أنقرة لا في حلب. وها إنَّ روسيا التي أُقصيَ وزيرُ خارجيّتِها سنةَ 1916 سيرغي سازونوف عن اتفاق «سايكس/بيكو»، عادت اليومَ وثأرَت من خلالِ اتفاقيّةِ «كيري/ لافروف» وتَربُّعِها على عرشِ سوريا.
لا يستطيعُ لبنانُ تجاهلَ متغيّراتِ المحيطِ والحفاظَ على نسيجِ مكوّناتِه وهندسةِ كيانِه وصيغتِه التاريخيّةِ وعَلاقاتِه التقليديّةِ كأنه غيرُ معنيٍّ بالتحوّلات الكبرى والجذريّةِ الحاصلة. لا يستطيعُ لبنانُ إغلاقَ أبوابِه ونوافذِه ــ وهي أصلًا مشرَّعةٌ ـــ ريثما تَـمرُّ العواصفُ والحروبُ والزلازل.
لا يستطيعُ لبنانُ مواصلةَ التمسُّكِ بدستورِ سنةِ 1989 (اتفاقُ الطائف) تضامنًا مع السُنّةِ مثلما تَمسَّك سابقًا بدستورِ سنةِ 1943 (الميثاقُ الوطنيّ) لأنَّ المسيحيّين كانوا يَرفضون تعديلَه.
وإذا من نصيحةٍ أُسديها إلى شركائِنا المسلمين: أن يَقبلوا ـــ في الوقتِ المناسب ـــ بتعديلٍ طفيفٍ يَسُدُّ ثغراتِ «إتفاق الطائف» فيُثبِّتونه عوضَ التَمسُّكِ به حرفيًّا فيُطيِّرونه كليًّا كما حَصل مع الموارنةِ حين عاندوا.
لكنْ، هناك فارقٌ بين الاعترافِ بواقعٍ ناتجٍ عن تطوّرِ «الجيوبوليتيك»، وبين الاعترافِ بأمرٍ واقعٍ فرضَته قوّةٌ في مرحلةٍ محدَّدةٍ وهو عُرضةٌ للرحيل. وهناك فارقٌ بين الاعترافِ بدولٍ ناجزةٍ وجماعاتٍ حضاريّةٍ تَبحثُ عن تقريرِ المصير، وبين الاعترافِ بأنظمةٍ قمعيّةٍ وبميليشياتٍ غيرِ شرعيّةٍ وبتنظيماتٍ تكفيريّةٍ وجهاديّةٍ وإرهابيّةٍ.
وهناك فارقٌ بين الاعترافِ بموازينِ قوى انبثَقت من الرُقيِّ والعلمِ والتقدّم ِوالجامعات ومن القيمِ والديمقراطيّةِ وحقوقِ الإنسان، وبين موازينِ قوى صَنعها الاجتياحُ والاحتلالُ والبنادقُ وثقافةُ الجهلِ والقتلِ والذبحِ والحربِ.
من هنا، أنَّ التكيّفَ مع المتغيّراتِ يُوجِبُ أوّلًا تحديدَ طبيعتِها ونوعيّتِها وديمومتِها، ومعرفةَ ما إذا كانت تَستحقُ عناءَ التوقّفِ عندَها. وعمومًا، لا يَجدُر بلبنانَ إجراءُ خِياراتٍ اصطفافيّةٍ تزيدُ تُورّطَه في محاورِ المِنطقة. بالعكس، إنَّ التحوّلاتِ الجاريةَ هي فرصةٌ تاريخيّةٌ للبنانَ ليُغلِقَ (لا ليُصفّيَ) حساباتِه القديمةَ ويتعاطى مع جميعِ أطرافِ الشرقِ الأوْسط من مبدأِ الشراكةِ لا التبعيّةِ لتكونَ علاقاتُه الخارجيّةُ ضمانةً إضافيّةً لسيادتِه واستقلالِه لا نقيضًا لها كما هي الحالُ حاليًّا. بكلمةٍ صريحةٍ: حيث يَجدُ لبنانُ مصلحتَه يَرمي شِباكَهُ، من دونِ أيِّ إلزامٍ أخويٍّ، ولا عداءٍ عبثيٍّ، ولا عِقَدٍ تاريخيّةٍ، ولا حتّى حتميّةٍ جغرافيّة.
أصلاً لا يوجدُ في الشرقِ الجديدِ، بعدُ، نظامٌ إقليميٌّ ثابتٌ مبنيٌ على منظومةِ قيمٍ وعلى مشروعٍ نهضويٍّ لنحدّدَ موقفَنا منه ونختارَه ونَنخرطَ فيه كما الدولُ الأوروبيّةُ الشرقيّةُ التي خَرجَت في تسعيناتِ القرنِ الماضي من منظومةِ الإتحادِ السوفياتيّ اختارَت الانضمامَ إلى منظومةِ الاتحادِ الأوروبيّ.
وأصلاً، لا توجدُ دولةٌ أو جماعةٌ في محيطِنا القريبِ والبعيدِ قادرةٌ على حمايةِ لبنان فعليًّا حتّى يختارَها حليفًا استراتيجيًّا له على حسابِ دولٍ وجماعاتٍ أخرى، فجميعُها تناوبت على المسِّ باستقلالِ لبنانَ وسيادتِه ووِحدتِه وهويّتِه، وجميعُها تَحتاجُ إلى مَن يَحميها.
ليس لبنان مُضطرًا إلى أن يختارَ سوريا تكريمًا للأقلّيات، ولا دولَ الخليجِ لإعجابِ سُنّةِ لبنان، ولا إيرانَ لإسعادِ شيعةِ لبنان، ولا فرنسا لإرضاءِ مسيحيّي لبنان (كانَ زمان)، ولا روسيا لإبهاجِ أرثوذكس لبنان. ما عدا إسرائيل حاليًّا، يُقرر لبنان ُإرساءَ علاقاتِه مع دول المحيطِ والعالم انطلاقًا من مصلحةِ الدولةِ اللبنانية لا استنادًا إلى رغباتِ المكوّناتِ اللبنانية. إذ لا يُفترضُ أن تكونَ لأي ِّمكوّنٍ مصلحةٌ خارجَ الدولةِ اللبنانية. وإلا تُثبِّتُ المكوّناتُ أنّها جالياتٌ سوريّةٌ وخليجيّةٌ وإيرانيّةٌ ومِصريّةٌ وأوروبيّةٌ وروسيّة.
الحقيقة المرّةُ أنَّ الأطرافَ اللبنانيّين يَتصرّفون كجالياتٍ تابعةٍ لدولٍ خارجيّةٍ لا كمكوّناتٍ لبنانيّةٍ تعاهدت على بناءِ دولةٍ مُوحَّدة. وفي غيابِ الولاءِ للبنانَ والقرارِ الوطنِّي الموحَّد، نحن عاجزون عن الخِيارِ. فمن سيأخُذ الخِياراتِ المصيريّة؟ وما قيمةُ خياراتِنا الخارجيّةِ في ظلِّ انقساماتِنا الداخليّة؟ ومن يَحسُبُ لنا حسابًا؟ لذلك، إنَّ اللبنانيّين مدعوّون إلى اختيارِ لبنانَ ـــ إذا أَمكن ـــ قبل أيِّ خِيارٍ آخر. لكنَّ الواقعَ أنَّ بينَنا من سَبقوا الدولةَ واختاروا ـــ بمنأى عنها ـــ دولًا وجماعاتٍ.
هكذا، لم يَعُد أمام اللبنانيّين المؤمنين بلبنانَ فقط، وهم متعدّدو الطوائف، إلّا أنْ يختاروا أنفسَهم وبيئتَهم الحضاريّة، «فلا خيرَ في ودٍّ يجيءُ تكلُّفا» (الإمامُ الشافعيّ).