يبدو أن بعض أهل السياسة في لبنان تتغيّر أفكارهم، وتنقلب ممارساتهم رأساً على عقب، مع تغيّر مواقعهم على الخريطة السياسية، بين المعارضة والوصول إلى السلطة، ولسان حالهم يردد المثل المكيافيلي البشع: أورشليم من فوق، غير أورشليم من تحت!
من موقع الحرص على عهد الرئيس ميشال عون، ونجاحه في إخراج البلد من الأزمة السياسية والاقتصادية التي تمسك بخناق اللبنانيين، والحفاظ على القيم والمبادئ الديموقراطية التي قامت عليها التجربة اللبنانية، وتمسكاً بأسس الوفاق الوطني التي أرسى قواعدها اتفاق الطائف...
من أجل كل ذلك، وغيره كثير، تداهمنا هواجس القلق على الاستقرار الحالي، رغم هشاشته الموصوفة، وتتزايد مخاوفنا، يوماً بعد يوم، من التعثر المستمر في مسيرة الدولة، فضلاً عن ارتفاع الصوت عالياً ضد كل مَن يحاول أن يُبدي رأياً مخالفاً لأهل السلطة، أو كل مَن يحاول أن يمارس حقه الديموقراطي في انتقاد موقف ما، أو ممارسة معينة لمسؤول، سواء أكان وزيراً أم رئيساً!
ثمة ظاهرة غير ديموقراطية، وبالتالي غير مقبولة، بل هي مرفوضة بكل إصرار وتصميم، من أهل الرأي والسياسيين، الذين يحتفظون لأنفسهم بهامش من الحرية في التعبير عن آرائهم ومواقفهم، حيث تُقابل ملاحظاتهم وانتقاداتهم الديموقراطية بوابل من التهجمات، تصل أحياناً كثيرة إلى حدود الإهانة الشخصية، وتوجيه شتى التّهم لهم، لأنهم تجرّؤوا على الكلام الذي يرونه مفيداً للبلد والدولة والسلطة نفسها!
أركان التيار الوطني الحر ووزراؤه، يبدو أن نبيذ السلطة قد أنساهم ذلك التاريخ الطويل لهم في مقاعد المعارضة، وماذا كانوا يقولون، بحق أو غير حق، عن الرموز السياسية والحزبية التي كانت تتولى السلطة في العهود السابقة، من دون أن يتهمهم أحد بقلّة الفهم، أو قلة التجربة، أو حتى المبالغة في الانتقاد والتهجّم، والتي وصلت إلى حد إصدار الكتاب الشهير «الإبراء المستحيل»، بكل ما حفل من مغالطات وافتراءات ضد الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والمشاريع النوعية التي حققها في مجالات البنية التحتية والخدمات العامة، بدءاً من المطار إلى الأوتوسترادات والمستشفيات والمجمّعات المدرسية، وهذا الصرح الحضاري للجامعة اللبنانية الوطنية في منطقة الحدث، إلى جانب الخطة العملاقة لإعادة إعمار وسط بيروت، والتي أضحت مثلاً لكثير من الدول العربية والأوروبية.
وماذا نقول عن نقض أحد بنود اتفاق الدوحة الذي تعهّد فيه فريق التيار الوطني بعدم الاستقالة من الحكومة، مقابل الحصول على الثلث المعطل، فكان أن تم إعلان الاستقالة الغادرة من الرابية بالذات، بينما كان رئيس الحكومة سعد الحريري يهم بدخول البيت الأبيض لمقابلة الرئيس باراك أوباما، وما تلا تلك الخطوة المفاجئة من خطاب «قطع وان واي تيكيت لسعدالدين الحريري»!
لا نعود إلى وقائع تلك الأيام السوداء لننكأ الجراح، بل لنؤكد مدى قدرة نظامنا الديموقراطي على استيعاب الرأي الآخر، مهما كانت مبررات وخلفيات معارضته، ونقارن بما يجري اليوم من ضيق صدر المسؤولين، بأقل انتقاد يوجه إلى رموز التيار الوطني الحر، وكأنهم في ممارساتهم المعروفة، يبقون فوق مستوى النقد!
الممارسة الديموقراطية التي تتم في إطار الدستور والقانون، لا تستثني أحداً من المسؤولين، من رؤساء ووزراء، لا سيما رئيس الجمهورية، طالما بقي الموقف المطروح في إطار التعبير عن حرية الرأي، ومراعاة أصول التخاطب والاحترام الشخصية والرسمية.
من هنا القول أن ما طرحه الرئيس فؤاد السنيورة عن محاولة رئيس الجمهورية تغيير بعض نصوص الطائف بالممارسة، ليس مجرّد وجهة نظر وحسب، بقدر ما هو يُعبّر عن مناخ عام سائد لدى شرائح واسعة من اللبنانيين، لا بد من احترام موقفها، والتعامل معه بوعي وجدية، لإثبات عكسه، وليس الاكتفاء بالتهجّم والعبارات الاستكبارية، التي تؤجج الخلافات السياسية، وتزيد الأمور تعقيداً بالنسبة للبلد والعهد، بدل العمل على إيجاد سبل معالجة الإشكالات الطارئة بالتي هي أحسن، وبما تقتضيه من حوار هادئ وهادف!
لقد آن الأوان ليدرك فريق العهد أن نجاح «الرئيس القوي» يتطلب تحقيق إنجازات حقيقية على الأرض، والابتعاد قدر الإمكان عن إلهاء الناس بعروض فائض القوة شبه اليومية، وتضييع الوقت بالسجالات العقيمة!
أم تُرى أن النقد ممنوع، والعتب مرفوع، وكم الأفواه هو المطلوب؟!