على الرّغم من النهايات المأساويّة للحبّ، التي تظهر بوضوح في الآداب العالمية كـ"قيس وليلى" التي تعدّ من أشهر قصص الحبّ في التراث العربي والأسطورة الأوروبية "تريستان وإيزولد" التي خطّها غوتفريد فون ستراسبورغ ما بين عامي 1205-1215 ب.م وغيرها الكثير؛ نذكر منها مسرحية "روميو وجوليت" و "عطيل" و"انطونيو وكليوباترا" لشكسبير الذي عمد في مسرحه على استلهام قصص الحبّ التراثية الشعبية.
إلّا أنّ الحبّ ممثلًا بـ"كيوبيد" الفتى الصغير صاحب الجناحين، لم يزل يرمي بأسهمه القلوب، فتصبح عاشقة مولّهة، لا يمنعها حتى الموت عن المضي قدماً في الحبّ، فالحبّ يعتبر من أعظم المشاعر البشرية، ولا يمكن إقناع العشّاق سواء من ذوي الحظوظ الطيبة بالحبّ أو السيئة، أنّ الحبّ بذاته وجوهره، لا نتيجة لظروف خارجية مجتمعية، اقتصادية، سياسية، دينية أو ذاتية متعلّقة بالطرف الآخر، يتضمّن وجهاً مظلماً كالقمر!
تعتبر اللغة مسكن ثقافتنا بقدر ما تعيش فينا، ويلاحظ المدقِّق في المعاجم اللغوية، كيف أنّ الكثير من الكلمات خرجت من التداول الخطابي، فلم تعد تُستخدم في عصرنا، مع أنّها كانت ذات شأن في عصر أقدم، ففي مجتمع المدينة تغيب كلمات أهل الريف المختصّة بالزراعة، وفي البادية تظهر الكلمات المتعلّقة بالرعي والترحال، وتغيب تلك الكلمات عن مجتمع الريف والمدينة.
فلِلكلمات نطاق جغرافي، بقدر ما لها حيّز ثقافي واجتماعي، ولها -أيضاً- زمن مؤقت لوجودها المحايث، قد يستمر أو ينتهي وفق قدرة الكلمات على التطوّر وعلى حمل معطيات الأزمنة الجديدة.
ولنأخذ مثالاً من واقع اشتغالنا الكتابي، كلمة " كَتَبَ" لم تكن تعني ما نعرفه عنها اليوم، فمفهومها الدلالي القديم يعني: جمع شيء إلى شيء آخر.
ولنستحضر البيت الشعري التالي كعادة القدماء دليلًا إلى ما ذهبنا إليه:
لا تأمنّن فزاريا خلوت به على قلوصك وأكتبها بأسيار
حتى أنّ الفيلسوف "فرانسوا دلا روشفوكو" قال عن صفة الحبّ في زمنه: إنّه نتيجة للقصص التي تقصّ على مسامعنا؛ وكأنّه يشرح كيف أنّ تلك العاطفة الجذرية في الإنسان تلوّنها الثقافة وتغيّرها الأزمان والأحوال.
في هذه المقالة سنحاول إضاءة الجانب المظلم من الحبّ في الثقافة العربية، وليس لنا من دليل غير اللغة، فالكلمات وإن تبدّل استعمالها أو بهت معنى من معانيها، غير أنّها تظلّ تحتفظ بشبهة نستطيع عن طريق الحفر في جذرها اللغوي واستعمالاته التاريخية والاجتماعية أن نقف على الرؤيا الغائمة لمفهوم الحبّ فيها، فالمدنيّة على الرغم من أضوائها الثقافية الباهرة إلّا أنّ المياه المالحة تجري تحتها في الظلمة.
الحبُّ مرضٌ قاتلٌ
بداية سنتعرف على معاني كلمة "مرض" وهكذا أول ما يتبادر إلى أذهاننا، أنّ المرض هو الخروج من جهة الصّحة والاعتدال إلى جهة النقص والاعتلال الجسدي والنفسي، سواء أكان التدهور الصّحي للإنسان ظاهراً أم مضمراً، إلّا أن لكلمة " مرض" معان أخرى، متشابهة ومتشاكلة مع ما ذكرناه، نذكر منها:
المرْض: الشّكّ وفي القرآن الكريم نجد الآية التالية: (في قلوبهم مرضٌ)، أيّ شكّ ونفاقٌ وضعفُ يقين.
وقال ابن الأعرابي: المرض، إظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها واعتدالها، ويقال عن الشمس، أنّها مريضة، إنْ أشرقت وقد حجبها السحاب الأعلى.
يذكر السّراج في كتابه "مصارع العشاق" أنّ بيت جرير أتى على الشكل الآتي:
إنّ العيون التي في طرفها مرضٌ قتلننا ثمُّ لم يُحيين قتلانا
وبذلك يكون السّراج قد استبدل كلمة "حور" بـ"مرض" فلماذا فعل ذلك!؟ هل لأنّه قد وصل إلى سمعه أو قرأ في نسخة ضمّت قصيدة جرير أنّ الكلمة هي "مرض" وليست "حور"؟
وللحقيقة، لا نستطيع أن نفترض التصحيف الذي يعني تبديل كلمة بأخرى نتيجة تشابه الأحرف أو انطماس الكلمة على الصحيفة المكتوبة عليها، فالسّراج قريب العهد من جرير، وفي زمن جرير كانت الوراقة قد ازدهرت على عكس الحال في بدايات الدولة الإسلامية والزمن الجاهلي، فما القصة إذاً؟
يشرح لنا البيت التالي للبيت المذكور آنفاً السبب:
يصرعن ذا اللّبّ حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أركانا
وعليه لنقم بالتدليل فيما ذهبنا إليه: فسياق البيتين (إنّ العُيُونَ التي في طَرْفِها حَوَرٌ/ قتلننا ثمَّ لمْ يحيينَ قتلانا ــــ يَصرَعنَ ذا اللُّبّ حتى لا حَرَاكَ بهِ/ وهنَّ أضعفُ خلقْ اللهِ أركانا)؛ يؤكد ذلك أنّ المرض هو الخروج عن حدّ الصحة، وهو-أيضًا- النفاق والفتور.
إنّ جريرًا إذ يصف تلك العيون بالمرض يتطابق مع مقولته في عجز البيت الثاني "وهن أضعف خلق الله أركانا" فحتى تتم المفارقة الشعرية؛ لابدّ من ملاحظة مقولته "يصرعن ذا اللبّ حتى لا حراك به" واللبّ يعني العقل، ومن سيقول: إنّ اللبّ، هو القلب، فقد كان القلب في الفكر التراثي القديم يعدّ مركز الإنسان عقلاً وعاطفة، فلا يختلف المعنى إنْ اعتبرنا اللبّ عقلاً أو قلباً.
وعليه يصبح معنى البيت: إنّ تلك العيون الضعيفة الفاترة المريضة بسبب الحبّ، قادرة على الإطاحة بذوي العقول والقلوب الحكيمة، ولا يعني ما ذهبنا إليه أن لا تكون حوراء! فليست كلّ عين حوراء قادرة على ما تفعله تلك العين المتمارضة والفاترة والتي تبدي وتمنع، فلولا مرضها بالحبّ لم تقدر على الغواية.
العشق طريق الشيطان للقلب
قد يكون ما ذهبنا إليه أعلاه ليس كافياً! فلنضف دليلاً آخر عن تصوّر العرب للحبّ ولنأخذ اسم العشق.
اعتبر العرب أنّ القلب مصمتٌ، ليس بأجوفٍ، لذلك لم يستطع الشيطان الدخول إليه واعتبر بذلك مسكن الربّ الذي من صفاته "الصّمد" والصمد ليس بأجوفٍ، أليس التشاكل الدلالي بين المصمت والصمد، هو ما جعل القلب مسكناً للإله! لكنّ العشق يخلخل القلب، فيسمح للشيطان بولوجه وقد قال ابن الدّمينة:
وقد كان قلبي في حجاب يكنّه وحبّك من دون الحجاب يساتره
فماذا يشفي من الحبّ بعدما تشــرّبه باطـن الفـؤاد وظاهره
فالعشق طريق الشيطان للقلب.
هذا من الناحية الدينية، إلّا أنّ هناك جانباً عنصريّاً في العشق وفق الحافظ مغلطاي في كتابه "الواضح المبين في ذكر من استشهد من المحبين"، بأنّ العشق لا يكون إلّا للنساء خاصة، وقد ذكر أبو عمرو "أنّ الناقة إذا اشتدت ضبعتها، أنّها قد عشقت" أيّ طلبت الفحل بلا هوادة، كذلك الأنثى العاشقة تُسمى الهلوك، التي تتهالك على الرجال دون قيد أو أخلاق، فالعشق من منظور العرب كان خروجاً عن الأعراف والأخلاق ويعتبر شذوذاً ما بعده شذوذ، خاصة للأنثى.
فيقول ابن القيم الجوزية: "إن العرب ذهبت بالتكنية عن العشق بأسماء كثيرة أخرى، خوفًا من معانيه" ومن هنا نفهم الحديث النبوي: "إنّ من عشق، فعفّ، فمات، فهو شهيد" ونستطيع أن نتلمس الإضمار فيما سبق، بعد أن نجد اللغويين فيما بعد، قد قالوا عن عشق المرأة، بأنّه التبعّل لزوجها، وكأنّهم بذلك ضمنوا أن تكون عواطف الأنثى ضمن النسق الاجتماعي، على عكس الرجل الذي أصبح ينسب لنفسه كلمة " العشق" ويفخر بها، ولنا في قصة زليخة مع النبي يوسف عبرة واعتبار فيما ذهبنا إليه.
دلالات أسماء الحبّ المرضيّة
الحبّ لغة: من الإحباب والإحباب لغة، القعود وعدم الحركة، ويقال للعاشق محبّاً، عندما يقعده الحبّ ويمرضه حتى يميته وقال الشاعر: (ما كان ذنبي في محبٍّ باركٍ/ أتاه أمر الله وههو هالك).
الشغف: داء جسماني يصيب القلب.
الجوى: نار الشوق وهو السّل، مرض يصيب الرئتين.
الهيام: الجنون، فقدان العقل.
العمَد: الحبّ الشّديد والمريض الذي لا يستطيع الجلوس ومنه العميد الذي يحتاج لمن يسنده ويدعمه حتى يستقيم.
الخَبل: العشق، وفساد الأعضاء.
الرسيس: آثار الهوى، وهو الحمّى.
اللوعة: نار الحبّ واعتلال الثدي.
الولع: شدّة التعلّق والبرص.
الضّمانة: تعني الحبّ، والمرض في الجسد.
سنكتفي بما سبق من أسماء الحبّ وصفاته، ولمن يرغب بالاستزادة، فله في القواميس ما يزيد ويثبت قولنا.
الحبّ لدى العرب اعتلال يصيبُ النفس والجسد، ويخرجها عن حدّ الاعتدال والصّحة، كما يفعل المرض في الجسم السليم.
ومن ناحية أخرى لا أحد يستطيع أن يقول: إنّ الحبّ وأسماءه قد انتحلت صفة المرض بناءً على النتائج التي تترتب على الوقوع فيه، لأن المدقق في الأسماء - أيًّا كانت- يجد محايثتها الآنية للفعل والنتيجة وكأنّهم خلقوا في نفس اللحظة.
وبعيداً عن هذا الجدل؛ لنلاحظ الوصف الذي يظهر حالة من أصابه الحبّ، وأقصد "الوقوع"، وهو السقوط، أوليس الهوى الذي يعني ضلالة العقل وخروجه عن الاعتدال، أحد أسماء الحبّ.
باسم سليمان