إحتاج الجميع اللعب على حافة الهاوية قبل الاستسلام لمشيئة التأليف، والقيام بخطوات تنازلية، ولو بنسب متفاوتة، للمساهمة في الالتقاء في مربّعٍ وسطيٍّ مشترك.
قبل أيام قليلة، كانت المشاورات لا تزال في ثلّاجة الانتظار. حتى التمريرة التي خطفها الحريري من ملعب رئيس الجمهورية، بعد التلميح أمامه حول إمكانية تجيير موقع نيابة رئاسة الحكومة لمصلحة «القوات اللبنانية»، لم تكن كافيةً لتحريك المياه الراكدة.
صحيح أنّ الرجل اندفع في اتّجاه ضرب موعد لقيام الحكومة (عشرة أيام)، لكنه كان يدرك جيداّ أنّ مهمّته صعبة، إن لم نقل مستحيلة. لكنه كان «مجبراً لا بطل» في دفع الأمور في اتّجاه الحلحلة والإيجابية لكسر الجمود.
ومع عودة عون من العاصمة الأرمينية، كانت «التمريرةُ» الثانية من جانب الرئاسة الأولى. حينها بلغ مسامع رئيس الحكومة المكلف كلام مفاده أنّ احتمالَ إسناد وزارة العدل إلى «القوات» ليس مستحيلاً لا بل قابل للنقاش. ما زاد من قوة دفع محرّكات الحريري الذي أعاد تنشيط اتّصالاته ولقاءاته بنحوٍ أوحى بما لا يقبل اللبس أنّ الرجل حسم خياره وقراره تأليفاً، مهما كانت الصعوبات.
ولا شك في أنّ إصرار رئيس الحكومة على تخطي العقبات، رفع منسوب الضغط على بقية الأطراف، وتحديداً «القوات» التي بدت وكأنها تغامر في استخدامها لعبة الوقت الضائع بينما تتصرّف بقية القوى على قاعدة أنّ الحكومة باتت في الحاضنة وما هي إلّا ساعات قليلة وتخرج الى الضوء.
حاولت معراب استثمار كل الأوراق المتاحة بين يديها قبل إبلاغ قرارها النهائي في شأن العروض التي توضع أمامها، بما فيها التلويح بالانتقال الى صفوف المعارضة.
لكنّ معراب تدرك تماماً أن لا خبز لها في ملعب المعارضة، ولا تجرؤ على إخلاء الساحة الحكومية أمام خصمها اللدود «التيار الوطني الحر» طوال أربع سنوات. رهان فيه كثير من المخاطرة، كونه قد يفقدها كل ما كسبته في هاتين السنيتن من حضور وصدقيّة أمام الشارع المسيحي.
ولذا تحاول «القوات» تحسين موقعها التفاوضي قدر الإمكان لأنّ قرار المشاركة لا تراجع عنه مهما كان الثمن. فالإلتحاق بالحكومة الثانية والأرجح الأخيرة في عهد عون ليس ترفاً يمكن التخلّي عنه بسهولة، ولا بدّ من مواجهة الضغط بعقل بارد.
وفي مطلق الحالات فإنّ حكومة الحريري الأولى، لا تشبه أبداً حكومته الثانية في العهد العوني. لكلِّ واحدة ظروفُ تأليفها وتركيبتها، واستطراداً جدول أعمالها.اذ تظهر ممانعةُ الرئيس عون ومعاندتُه خلال مرحلة التأليف أنّ الرجل لا يمزح في توصيفه الحكومة العتيدة، أنها «حكومة العهد»، بينما الأولى كانت «بروفا تجريبيّة»، فيما الآمال معقودة على تلك أنها ستولد بين لحظة وأخرى.
عملياً، سيكون جدول أعمال هذه الحكومة متخَماً، خصوصاً على المستويَين الاقتصادي والنقدي، كونها ستعمل على جذب رزمة القروض التي وعدت بها من جانب المشاركين في مؤتمر «سيدر».
والأهم من ذلك، يتعامل «التيار الوطني الحر» مع هذه الحكومة على أنّها فرصته الذهبية لتعويض ما خسره في الأشهر الأخيرة. فإذا نجحت في أدائها وتمكنت من تحقيق الانجازات، فهذا يعني أنها قادرةٌ على تعويم «التيار» شعبياً وتحصين موقعه بعد التراجع الذي شهدته الانتخابات النيابية الأخيرة.
وفي المقابل فإنّ إخفاق الحكومة في مهماتها، يعني امتحاناً صعباً ينتظر «اليتار» في معمودية الانتخابات سنة 2022. ولهذا يقول أحد المعنيين «إنّ ما كان سائداً في الحكومة الأولى لن يتكرّر في الحكومة الثانية التي ستحكمها قواعد جديدة».
ولكنّ التحدي الأهم بالنسبة الى الحكومة المنتظرة هو في شبكة التفاهمات السياسية التي كانت تحصّن الحكومة الأولى، وباتت اليوم موضعَ تساؤل وتشكيك.
إذ وُلدت الحكومة الأولى في كنف منظومة تفاهمات سياسية جعلت من انطلاقتها صاروخيّةً الى درجة إقرار مراسيم النفط في وقت قياسي. فـ«القوات» كانت لا تزال تحمي «إعلان النوايا» بـ«رموش عينيها»، ثمّ تجاوزت العلاقة لاحقاً نقطة العودة بعد تبادل السجالات التي عادت ونبشت قبور الماضي.
ويستحيل بالتالي ترميمُ التفاهم حتى لو جرى التعامل مع المصالحة على أنها فوق التوتر، مع العلم أنّ النزاع السياسي في الفترة الأخيرة قد كشف النيات المبيّتة.
كما أنّ زعيم تيار «المستقبل» كان يضع كل رهانه على الحكومة الأولى لكي تنتشله من «مستنقع» التراجع الجماهيري بعد سلسلة النكسات والأزمات التي أصابته. لكنّ التوتر الذي أصاب العلاقة الثنائية مع «التيار الوطني الحر» قد يحول دون استعادة شهر العسل، مع العلم أنّ المطّلعين يؤكدون أنّ المشاورات ما كانت لتنطلق بزخم لولا التفاهم المسبَق بين الحريري ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل حول خريطة طريق عمل الحكومة.