كان معبّراً جواب وزير خارجية العراق إبراهيم الجعفري على تمني نظيره اللبناني جبران باسيل أن تصيب «العدوى» بلاد الرافدين فتتشكل الحكومة العراقية قريباً، اقتداء باقتراب ولادة الحكومة اللبنانية التي مضى على أزمة تأليفها قرابة الخمسة أشهر نتيجة تناتش وتجاذب القوى السياسية، لا سيما المسيحية، الحقائب والحصص فيها.
فالجعفري الذي لا تنقصه مَلَكة الكلام، أتاحت له اللباقة الرد على باسيل بأن «العدوى تعني المرض ولا يُستعمل هذا المصطلح للصحة الجيدة»، معتبراً أن لبنان والعراق نموذج للحوار، ومتمنياً أن ينتقل إلى سورية.
الأرجح أن المفارقة تكمن في أن لبنان هو الذي يفترض أن تكون العدوى انتقلت إليه مما يحصل في العراق لجهة تسريع خطوات تأليف الحكومة بعدما أخرتها العقد المفتعلة والواقعية، والتي شهدت تنقلاً بين المعايير في التوزير، في شكل بدا معه أن سبباً خفياً يقف وراء تعليق ولادتها.
ومع رغبة البعض في تشبيه ما يحصل في أحد البلدين بما يحصل في الآخر، فإن الفارق يكمن في الكثير من النواحي: لم تكن المشكلة في العراق التأخير في استيلاد الحكومة كما في لبنان، لأن هناك مهلة دستورية للرئيس المكلف لا تتعدى الشهر ليعلنها. وبالتالي فإن الرئيس عادل عبد المهدي الذي جرى تكليفه في 2 تشرين الأول الجاري مجبر وفق الدستور، على إنجازها قبل الثاني من الشهر المقبل. التأخير قرابة 4 أشهر في العراق، بعد الانتخابات، أصاب تشكيل السلطة على مستوى رئاسات الجمهورية والبرلمان والحكومة، وهوية كل منهم السياسية. في لبنان انحصرت إعادة تشكل السلطة بكيفية تحقيق التوازن داخل مجلس الوزراء، بوجود رئيس للجمهورية وبحسم رئاسة البرلمان مسبقاً. فرضت مشاكل العراق الكبرى نتيجة الإدارة الإيرانية التي شكلت مظلة للفوضى فيه، الأخذ بمعيار وحيد وضعه المرجع الشيعي السيد علي السيستاني وهو تغيير القيادات التي تبوأت الحكم في المراحل السابقة، لأنها عجزت عن وقف تدهور أوضاع البلد الغني الذي أفقره الفساد والهدر والتصرف بثرواته. فرض معيار السيستاني على النفوذين الأميركي والإيراني في بغداد، تقاسماً جديداً للسلطة، فخرجت التسوية مطلع هذا الشهر. ولكل من الرؤساء الثلاثة هذا المقدار أو ذاك من الصلة بالدول النافذة في السلطة في بغداد.
ومع جهود عبد المهدي لتأليف حكومته، التي يتابعها الأميركيون والإيرانيون عن كثب، بدا أن الأمر يحتاج إلى تدخل خارجي لتسهيل العملية. ولذلك زار قاسم سليماني بغداد وشجع القوى الحليفة على الأخذ بالمعيار الذي وضعه الرئيس المكلف لاختيار الوزراء الممثلين للكتل السياسية الكبرى، بعد أن اتبع أسلوب تلقي الترشيحات للمناصب الوزارية عبر موقع إلكتروني خصصه لهذا الغرض، لينتقي هو منهم، مع هذه الكتل، من يفترض إسناد الحقائب إليهم، بدلاً من أن تفرض الكتل عليه أن يختار من بين من تسميهم.
منذ أن بدأت الأمور تشهد حلحلة في بغداد مطلع الشهر الجاري، أخذت التعقيدات التي تعترض الرئيس المكلف في لبنان سعد الحريري، تتراجع. وما سمي نصائح فرنسية لكبار المسؤولين، لا سيما لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون وفريقه بوجوب تسريع قيام الحكومة بذريعة خيبة المجتمع الدولي من إضاعة الوقت في تنفيذ برنامج المساعدات والإصلاحات في لبنان لإنقاذ اقتصاده، كان بالفعل ضغوطاً. مقابل الدورين الأميركي عبر السفارة، والإيراني عبر سليماني في بغداد، حصل التحرك الفرنسي الذي يحظى بالتفويض الأميركي، وكذلك لقاءات الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله مع الوزير باسيل، ثم المسؤول الأمني في الحزب وفيق صفا، للحض على الإقلاع عن الشروط التي تعيق إنجاز الحكومة. والرئاسة الفرنسية أسمعت الرئيس عون وباسيل كلاماً قيل إنه متشدد على هامش القمة الفرانكوفونية.
منذ انتهاء الانتخابات العراقية (تزامنت مع انتخابات لبنان)، التي خضعت نتائجها لأخذ وردّ بسبب تعديل أحجام الكتل قبل أن يتم تثبيتها على وقع ترتيبات التوافق الأميركي والإيراني على الحصص، هناك من أخذ يترقب إنجاز هذا التوافق، لأن على ترجمته العملية يتوقف الإفراج عن حكومة لبنان. لم يكن عن عبث أن نصر الله كان يردد خلال الأشهر الخمسة الماضية أنه ليس محشوراً أو قلقاً من العقوبات الأميركية، رداً على التكهنات بأن الحزب مستعجل على إنجازها بسبب ضغط الحصار الأميركي الإقليمي عليه بفعل العقوبات، فإظهار عدم الاكتراث بالعقوبات كان الوجه الآخر للتعايش مع التأخير في إنجاز التسوية على الحكومة، انتظار اكتمال التسوية في العراق والذي كرسه التوافق على عبد المهدي.
هناك من حاول الإفادة من فترة الانتظار، وحين انتهت انتقلت «العدوى» من العراق إلى لبنان، لا العكس.