وصل إلى مسامعي أخيرًا مثل فرنسيّ يضربه الرجال في أوقات المزاح والهزل؛ مثلٌ أثار اهتمام الأنثى التي فيّ، تلك المختبئة خلف طبقات الملابس السميكة القاتمة في نهارات باريس الرماديّة.
Ce que femme veut, Dieu le veut.
"ما تشاءه المرأة يشاءه الله".
ابتسمتُ لهذا المثل وتحضّرت لجولة من الأسئلة والأخذ والردّ. يطلب منّي صاحب الصفحة الثقافيّة في كلّ مرّة أكتب فيها مقالاً أن أنزل إلى الشارع وأن أسأل الناس رأيهم. ينهرني بعصبيّته الرشيقة الحادّة ويحضّني على التحدّث إلى الناس. حسنًا. فلنتحدّث إليهم. هلمّ بنا إلى الشارع.
هل فعلاً يشاء الله ما تشاءه المرأة؟ هل للمرأة هذا القدر من العزيمة والقوّة والسلطة؟
أشعر بالدم يغلي في عروقي، أشعر بـ"شلش" الفيمينيسم يتصلّب ويتأجّج.
فلنسأل. فلنكتشف المرأة الفرنسيّة.
نعم. وألف نعم. يقولونها والضحكة لا تغادر وجوههم. المرأة كائن ماكر حذق متقلّب. يرمون بأمثلة وأفكار، منها المضحك ومنها المتسرّع الحانق. فأسألهم عن نساء فرنسا، عن نساء التاريخ والحضارة والسياسة والبلاطات والعصر الحديث. أسألهم عن المرأة التي يرون فيها مثال القوّة والعزم.
في مجملهم يتناولون جان دارك (1412-1431) القدّيسة المقاتلة التي حمت فرنسا من الإنكليز وقادت الجيوش بقوّة وحزم. منهم مَن يرفض اعتبارها على هذا القدر من الأهمّية، فتقول فتاة شابّة "جان دارك كانت تسمع أصواتًا برأسها. لا أثق كثيرًا بالناس الذين يسمعون أصواتًا من عالم آخر، أفضّل ماري كوري".
ماري كوري (1867-1934) كانت الخيار الثاني. المرأة المفضّلة ثانياً عند الإفرنج. فهذه العالمة التي نالت جائزة نوبل مرّتين في مجالين مختلفين، تشكّل مفخرة وطنيّة ومثالاً للمرأة الذكيّة المصمّمة. يحبّها الفرنسيّون ويحترمونها من دون أن يعرفوا دقائق تفاصيل حياتها وأعمالها تمامًا.
تأتي بعد ماري كوري مباشرة سيمون فايل (1927-2017) المحامية الفرنسيّة والسياسيّة والمدافعة عن حقوق المرأة التي تخبّطت صفحات السوشيل ميديا أخيراً بخبر وفاتها المؤسف. تأتي هذه المرأة بحسّها الوطنيّ ورغبتها في تحسين حالة المرأة وقلقها على العدالة والإنسانيّة، فتمحو صورة الملكات والنساء اللواتي تعاطين السياسة قبلها بشيء من القسوة والشراسة. يقول شابّ فرنسيّ والضحكة تجلجل في حنجرته إجابة عن سؤالي حول الملكة كاثرين دو ميديسيس (1519-1589) الذائعة الصيت بقسوتها وقراراتها الشديدة البأس "كانت امرأة مخيفة خطِرة، مات معظم رجالات بلاطها الملكيّ بسببها أو بإشارة بسيطة منها".
لم تخلُ طبعًا رحلتي القصيرة إلى الشارع من الإجابات الطريفة. فماريلين مونرو لم تغب. وكذلك كوكو شانيل (1883- 1971) كانت حاضرةً بخجل وظرافة. فلمَ لا تكون أيقونة الموضة هذه مثالاً للمرأة القويّة المحنّكة التي تصم التاريخ بلمساتها وتصاميمها وإبداعاتها.
كذلك حضرت سيمون دو بوفوار (1908-1986) بحكمتها ونصوصها وسخطها العارم على المجتمع والتقاليد. فهل يمكن الحديث عن المرأة في التاريخ الفرنسيّ من دون التوقّف عند سيمون دو بوفوار بمقولاتها الشهيرة التي تحضّ المرأة على اعتناق أنوثتها والتحرّر؟ هل يمكن إهمال دو بوفوار التي تجعل المرأة حالة فكريّة مكتملة وليست حالة بيولوجيّة يولد المرء فيها؟ أليست هي التي أوردت مقولة أنّ الأنثى لا تولد امرأة بل تصير امرأة؟
On ne naît pas femme: on le devient
إجابات كثيرة، وضحكات ماكرة. منهم مَن يكتم أخباره ومنهم مَن يفضحها. بين هذه الإجابات، جوابٌ جوهريّ يؤرقني أكثر من غيره: المرأة لا تولد أنثى، بل تصيرها.
السؤال – التحدي: كيف تصيرها؟!
(كاتيا طويل)