وكما اعتادوا دائماً، سيتسابق أطراف النزاع السياسي في لبنان في نفيهم أي تأثير خارجي أو ارتباط اقليمي أمام فتح أبواب الحلول الحكومية. لكنّ المهم أنّ الأجواء أصبحت مهيّأة لتشكيلة حكومية، ميزتُها «الوزراء الودائع» وإبقاء الحسابات الرئاسية إنطلاقاً من المعادلة الحكومية، وصيغة الثلاث عشرات غامضة. لكنّ الأفضل للبنان «النجاة» بهذه الحكومة في ظل ازدياد المشهد الاقليمي تعقيداً وغموضاً.
ذلك أنّ الشرق الاوسط أمام استحقاقين كبيرين مطلع الشهر المقبل. الاول، المتعلّق بالعقوبات على إيران في الرابع من تشرين الثاني. والثاني، المتعلّق بالإنتخابات الأميركية النصفية او انتخابات استفتاء على ترامب نفسه، كما يعتبر فريقه او كما تؤشر الحملات الإنتخابية. وهذه الإنتخابات ستحصل في السادس من الشهر المقبل أي بعد يومين فقط على إعلان العقوبات الاميركية الجديدة. وقد لا يكون من باب المصادفة توقيت هذه العقوبات قبل 48 ساعة فقط من فتح صناديق الإقتراع الأميركية.
بالنسبة الى الإستحقاق الأول، فإنّ هنالك اقتناعاً داخل الإدارة الاميركية بأنّ الظروف تسمح «بإنهاك» الإقتصاد الايراني أكثر قبل الذهاب الى المفاوضات، بهدف تدوير الزوايا الحادّة للمواقف الإيرانية. ما يعني في اختصار، مزيداً من الضغط للأسابيع المقبلة، مع العلم أنّ العقوبات تؤذي ولكنها لا تغيّر معادلات.
امّا الإستحقاق الثاني والذي يضغط بقوة على ساكن البيت الابيض ويدفع به الى استخدام كل أوراقه من اجل تجنّب الخسارة لحزبه ولنفسه، فهو يجعل من معظم القرارات الأميركية مبنية على خلفية إنتخابية، وهو ما يؤثر بنحو اساسي في ساحات الشرق الأوسط.
في الآونة الاخيرة، قدّم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هدية إنتخابية ثمينة لنظيره الأميركي بإطلاق القس الاميركي اندرو برانسون.
إطلاق رجل دين أميركي قبل أسابيع معدودة من الإنتخابات يساوي حتماً كثيراً من الأصوات في صندوق الإنتخابات الى درجة، أنّ بعض الديبلوماسيين يعتقدون أنّ ترامب ما كان ليريد إطلاق برانسون بعد الانتخابات.
ولا شك أنّ هذه الهدية التركية جاءت إثر صفقة لا تزال غير معروفة، وعلى الأرجح لن تظهر إلاّ بعد السادس من الشهر المقبل.
قيل إنّ تركيا سعت دائماً لتفعيل اتفاق منبج والذي لم يتم تنفيذه، وبموجبه تنسحب «قوات سوريا الديموقراطية» الى شرق الفرات بعد نزع سلاحها.
أردوغان كان قد صرّح سابقاً انّ تركيا أصبحت دولة لها ثقلها في المنطقة، وتحدّث عن أنّ بلاده تهدف الى تطهير بعض المناطق السورية بدءاً من منبج وحتى الحدود السورية ـ العراقية.
ترامب من جهته إستقبل القس المُفرج عنه باحاطة إعلامية واسعة ومؤثّرة، وسعى لاحقاً الى نفي إبرام أي صفقة مع تركيا، هو أراد ان يقول إنّ مكسبه نابع من قوة سياسته ومن دون مقابل.
تبقى الاشارة الى ما نقلته صحيفة «وول ستريت جورنال» الصيف الماضي من انّ تركيا اقترحت وقف واشنطن تحقيقاتها في شأن مصرف «خلق» الحكومي التركي عبر نائب رئيس المصرف، بتهمة مساعدة ايران على تفادي العقوبات التي كانت مفروضة عليها قبل توقيع الاتفاق.
لكن النقاط الإنتخابية الثمينة التي حقّقها «الحزب الجمهوري» عقب إطلاق القس الاميركي سرعان ما تبدّدت مع إدخال خصوم ترامب قضية إختفاء الصحافي السعودي جمال خاشقجي في خضم الحملات الانتخابية.
في الأساس، فإن ادارة ترامب تعاني من تفكّك واستقالات، ومع استقالة نيكي هايلي المندوبة الاميركية السابقة في الامم المتحدة، بلغ عدد الراحلين عن ادارة ترامب 28 مسؤولاً كبيراً. واذا صحّت مغادرة وزير الدفاع جيمس ماتيس لاحقاً يصبح العدد 29 مسؤولاً.
خصوم ترامب يأخذون عليه أنّ سياسته ادّت الى تحطيم الصدقية والمكانة السياسية للولايات المتحدة الاميركية على الساحة الدولية. صحيحٌ انّ ترامب كان يضغط على السعودية لانتزاع أموال إضافية، وهو كرّر ذلك للمرة الرابعة أمام حشد انتخابي في ولاية اوهايو في اعتبار انّها تشكل نقطة قوة إنتخابية له. الّا انّ معارضيه ومع ظهور أزمة الخاشقجي، حوّلوا علاقته بالسعودية نقطة ضعف إنتخابية. فمثلاً، قال العضو الديموقراطي في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ إنّ السعودية «تمكنت من تجنيد الرئيس الاميركي». وهذا ربما ما دفع بترامب الى ردّ دفاعي مؤكّداً فيه انّ لا مصالح مالية لديه في السعودية.
ومشكلة ترامب هنا لا تكمن فقط في الانتخابات النصفية حيث أظهرت آخر ارقام الإستطلاعات تراجع «الحزب الجمهوري» الى 41 %، لكنّ المشكلة ايضاً هي في «صفقة العصر» مستقبلاً، والتي يريد ترامب ترجمتها عملياً بعد الانتخابات، وحيث يشكّل ولي العهد السعودي أحد أبرز أعمدتها.
وعلى وقع ملف الخاشقجي، تندفع تركيا للاستفادة من الوقت والإمساك بكل الفصائل المعارضة داخل إدلب واخراج السعودية منها لضمان الاستئثار لاحقاً بنفوذها على الفريق السعودي المعارض.
من أجل كل ما سبق وأكثر، كان من الأفضل للبنان الخروج من محنة الفراغ الحكومي.