العودة إلى الأماكن التي عاش فيها المرء ردحاً من الزمن غير قصير ليست مسألة سهلة على الدوام. لا تكمن الصعوبة، هنا، في نواحي السفر وملحقاته، بل بالإنوجاد في أمكنة لم تعد كما كانت، وخصوصاً في البلد الذي كان سوفياتياً، مع ما تعنيه هذه الكلمة من مضامين، ثم انقلب على نفسه ليصير روسياً، منفتحاً على العالم وعلى ما يمور فيه من نزعات وإرهاصات وكماليات و"سخافات" لا يخلو منها زمن العولمة الذي يلتهم الجميع، ولا يوفّر أحداً.
ذاك الفتى الأسمر، بل الشديد السمرة حد السواد، كان مزعجاً. ليس للأمر علاقتة بالنزعة العنصرية المتعلّقة بلون البشرة التي تغذّي نفوس البعض، بل أن هذا اللون كان أول ما يميّز الفتى الكثير الحركة، الذي أراد أن يثبت لمن حوله أنه يتكلّم الروسيّة، باللكنة اللبنانية التي لا تخفى على العارف بلغة بلاد الصقيع. حار صاحبنا في إيجاد من يستمع إليه من ركّاب الطائرة المكفهرّي الوجوه بفعل التعب الليلي، الذاهبين إلى موسكو. سأل مسافرة ذات سحنة آسيوية إن كانت في حاجة لمساعدة لرفع حقيبتها الثقيلة الوزن. لم تردّ عليه الفتاة بسوى كلمة واحدة، ولم تنظر إليه سوى للحظة. حظي أخيراً بفتاة عربيّة صدف مقعدها إلى جانبه، في الجهة المقابلة لمقعدي، فتحدث إليها طوال الرحلة من دون إنقطاع، ولا ملل.
ذكّرني ذاك الفتى بالحماسة التي كانت تغمرنا لسنوات كثيرة ماضية، حين كنا على الأرض الروسيّة، وكنا نقبل على التحدّث إلى الفتيات من دون وجل ولا تردد. تغيّرت الأمور مع الزمن. ذهبت الحماسة إلى مكان آخر، وحل مكانها تعقّل وحكمة شديدا الوطأة لا لزوم لهما في بعض الأحيان. ثمة دم آخر يجري الآن في عروقنا لا يدفع الأدرينالين إلى الإرتفاع إلاّ بعد جهد. يُخيّل إليّ أنه لو صدف وجلست قربي فتاة فائقة الجمال لما طاوعتني نفسي للتحدّث إليها.
القول إن المدينة تغيّرت لم يعد إكتشافاً إلاً لمن يزورها للمرّة الأولى بعد إنقضاء زمن طويل من إقامته فيها. كنا اجتزنا مرحلة المفاجأة في وقت سابق. لكن بعض ما تراه لا بد من أن يدفعك إلى التعجّب والإبتسام، كرؤية ذاك الزنجي الأفريقي يدعو المارة إلى جولة على زورق في نهر "نيفا". مشهد قد يكون مألوفاً في باريس، ولكن ليس هنا. ثلّة من الشباب بثياب عسكريّة في الساحة المقابلة لـ"غاستينّي دفور" يطلبون من المارة التبرّع لجرحى الحرب، بحسب ما هو مكتوب على لافتة، تحت راية عسكرية، وبمرافقة موسيقى وأغان وطنيّة. ليس بعيداً منهم فرقة لاتينيّة تعزف موسيقى آتية من بلاد ما قبل كولومبية. فتاة – موديل ممشوقة، تمتلك ساقين أسطوريتين يبدوان كأنهما تنتميان إلى لوحة لجان دومينيك أنغر، تتخذ أوضاعاً مختلفة ممزوجة بالدلع على أحد الأرصفة، ويقوم بإلتقاط صور لها مصورون يابانيون. لن نتحدّث عن أجهزة الهاتف الخليوي التي صارت ظاهرة عالمية، والتي احتلّت، للأسف، أمكنة الكتب التي كان يقرأها ركّاب وسائل النقل، خلال تنقلاتهم المديدة في المدينة الكبيرة، خلال الزمن الماضي. تُشعرك المدينة، أحياناً، بالحيرة تجاه ما يحيط بك، وهي تشبه تلك الحيرة التي لحظتها على وجه تمثال معدني متقن الصنع، وُضع في أحد الأمكنة من شارع روبنشتاين. تحين من التمثال نظرة في إتجاه ملهى – بار، كأنه يتساءل عن إمكان الولوج إليه. ذكّرني بكلمات مظفّر النوّاب من قصيدة "في الحانة القديمة"، حين يقول: "المشرب ليس بعيداً/ ما جدوى ذلك؟ ... إلاً الخمرة بعد الكأس الأولى تهتمّ بأمرك/ تدفئ ساقيك الباردتين/ ولا تدري أين تعرّفت عليها / أي زمان".
قرب بورتريه أنّا أخماتوفا
"لا أحد يتذكرني الآن/ كتبي تتعفّن في خزانتي/ ولن يحمل اسم أخماتوفا/ شارع ولا موشح غناء".
لم تكن أخماتوفا على حق حين كتبت هذه الكلمات المجحفة في حقّ نفسها، إذا ما نظرنا إلى القيمة المعطاة لشعرها، ليس في بلدها روسيا فحسب، بل في العالم أجمع. لكن الشاعر قد يكون محقّاً في اعتبار نفسه "منبوذاً". أن تكون منبوذاً، خير من أن تكون "نجماً" كنجوم الغناء في بلدنا. وأن تثير غضب البعض، وربما الكثيرين، أفضل من أن تكون متملّقاً. التلاعب بالكلام وبمشاعر الخليقة مطلوب، وإستنباط عالم آخر واجب، والسير في عكس التيّار مغر. خالفت أخماتوفا السلطة كما نخالفها الآن، فالسلطة عائق مهما كانت نوعها. مدحت ستالين، مجبرة، كي تنقذ إبنها السجين في معتقلات تلك الحقبة، تعرّضت لمضايقات، على أن ذلك لم يمنعها من التصريح: "لست مع من يهجر وطنه".
"كانت الشمس منخفضة/ ونهر النيفا يبدو ضبابياً/ وفي البعيد كان الأمل يغنّي".
ليس بعيداً من نهر النيفا في سان بطرسبورج يقع متحف أنّا أخماتوفا على شارع رئيسي في المدينة. يلج الزوار إليه عبر قوسة مرتفعة تفصلها عن الشارع مساحة فارغة. إلى جانب القوس المقابلة للشارع نُفذّت جدارية من مواد نافرة هي عبارة عن بورتريه للشاعرة بحجم كبير. الحائط المجاور للجدارية كبير نسبياً وخال، أو هكذا من المفترض أن يكون. لكن عشّاق الشاعرة شاؤوا تحويله إلى جدارية أخرى، غرافيكية وخالية من الرسوم، لكنها مزيّنة بكتابات شعرية يعود بعضها إلى أخماتوفا، ويعود البعض الآخر إلى محبيها أنفسهم. هذا، في حين أن بعض ما كُتب قد لا يكون ذا علاقة مباشرة بالشعر، وقد يبلغ حد العبثية واللغو. على أن الكثيرين أرادوا، من خلال تلك الكتابات، الطامحة نحو الشعر، الإبلاغ عن تقديرهم للشاعرة، ولو أن محتوى كتاباتهم لا يبلغ، في طبيعة الحال، القدرة الشعورية الفائضة، البسيطة أحياناً والبعيدة عن التعقيد التي تمتّعت بها أخماتوفا: "أخبريني كيف قبّلك الرجال/ قولي لي كيف تقبّلين"، أو "نحن شعب بلا دموع/ أكثر إستقامة منكم. أكثر فخراً".
على أن الجدار يمتلئ بالكتابات بسرعة. هذا الأمر لم يكن وارداً، من حيث الأساس، في الفترة السوفياتيّة، حين كان يُحاسب كل من تتعدًى كتاباته على الجدران عبارة: أحبك يا ناتاشا ولست قادراً على العيش من دونك، على سبيل المثل. صار في إمكان الأفراد التعبيرعن مشاعرهم تجاه أمور كثيرة، ولو أن هذا التعبير لا يرتكز دائماً على قاعدة واضحة. إثر إمتلاء الجدار بالكتابات لا ترى إدارة المتحف، التي تشغل مكاناً فيها إحدى الصديقات، بداً من الطلب إلى أحد العمال "طرش" الكتابات، ربما إفساحاً في المجال أمام حكايات جديدة. وإذ كنت حاضراً في تلك اللحظة، رأيت كيف تختفي الحروف مع كل ضربة "رولو" تحت ناظري أخماتوفا، ليعود الجدار أقرب إلى الأبيض. تخيّلتها تتلو كلمات من قصيدتها "صوت الذاكرة"، المهداة إلى أفانا سيفناغيلوفا: "ما الذي تَرينهُ وأنتِ تنظرينَ حزينةً إلى الجدار/ في ساعة تحلّ فيها لحظات الشفق الأخيرة/ أنورساً فوق بساط الماء الأزرق/ أم حدائق فلورنسيّة؟!/ .../ لا. أنا لا أرى إلا الحائط ـ وعليهِ تنعكسُ نيرانُ السماء المنطفئة لتوّها.".
ЖИЗНЬ ЗА ЦАРЯ
شئنا أن نترك هذا العنوان على صورته الأصلية، باللغة الروسيّة. التسمية تعود إلى عمل مسرحي من صناعة ""Teatro di Kapua، وعنوانه بالعربيّة "الحياة من أجل القيصر". "دي كابوا" ما هو سوى الإسم العائلي لمخرج العمل الإيطالي جوليانو دي كابوا، الذي درس المسرح في سان بطرسبورغ، وبقي في المدينة، شأنه شأن كثيرين ممن وقعوا تحت سحر مدينة بوشكين ودوستويفسكي وأبوا مغادرتها.
قالت لي إيلينا، الصديقة الودودة التي تجمعني معها صداقة منذ عشرات السنين، أن المسرحيّة سبق أن قُدمت مرات عدًة، وفي إحدى هذه المرّات في محترفها الفني، واستُعمل أثاث المحترف من طاولات وكراس قديمة ومصابيح ديكوراً للعمل. استغربت الأمر، ثم تبيّن لي أن المسرحيّة قد تكون صالحة للعرض في أي مكان، وحتى في قبو، وكلّما كان المكان محصوراً ومعتماً فستكون النتيجة لصالح العرض. يصعب إيجاز العمل في سطور، ويصعب أكثر الحديث عنه. هذا العمل يجب أن يُرى، أو بالأحرى أن يُسمع، وينبغي لمن يشاهده ويسمعه أن يكون ملمّا باللغة الروسيّة في شكل كافٍ لفهم ما يدور أفكار وحوادث.
الصديق أندره، زوج إيلينا، يتلبّس شخصيّة، أو شخصيّتي تولستوي ودوستويفسكي. الشكل الخارجي الطبيعي لأندره يوحي للجميع أنه خارج من شخصيّة تنتمي إلى نهايات القرن التاسع عشر، يشبّهه البعض بدوستويفسكي، ويشبّهه آخرون براسبوتين. القرن المذكور هو الزمن الذي تدور فيه حوادث العمل المسرحي. يقرأ أندره مقاطع لتولستوي في الساحة المغلقة داخل الأبنية والمفتوحة على السماء، الواقعة خارج المسرح، ثم يقرأ أيضاً مقاطع لدوستويفسكي، ويقودنا بعدها إلى الداخل الأشبه بشقّة لا إضاءة باهرة فيها. ترتكز المسرحيّة على وثائق كان تركها أعضاء اللجنة التنفيذية لحزب "الإرادة الحرّة"، المناهض للسلطة، الذي نشط في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وكذلك إلى بعض وثائق محاكمة أعضائه، كما إلى مذكّرات هؤلاء، أمثال فيرا فيغنر وأندره جيليابوف وصوفيا بيروفسكايا ونيقولاي كيبالتشين وآخرين. تدور مجريات المسرحيّة حول طاولة في غرفة معتمة. يدلي الممثّلون الأربعة بآرائهم وما يختلج في نفوسهم وهم مجتمعون حول الطاولة نفسها . يُخيًل إلينا أنهم تائهون ضمن جملة من الأفكار حول الشعب والمجتمع والثورة. نلحظ من خلال أحاديثهم كم هم أنقياء، لكن مواقف السلطة وتصرّفاتها قد تدفع الأفراد إلى التطّرف (التاريخ حافل بحالات من هذا النوع في بلادنا وسواها). نستخلص مما نسمعه أن العلاج لا مكان له، وأنه في حال لم تكن مبادئ إحترام حياة الفرد من أولويات النظام الحاكم، فلا بد من التوجّه إلى الجماهير، وربما إلى التطرّف، كما ذكرنا. خطر في بالي ما تعاني منه بلادنا، وكيف يتم الإنجرار وراء إنتماءات تافهة. القيصر في بلادنا حاضر على رأس كل مجموعة، والأنقياء، على قلّتهم، حاضرون فيها، ولكن لا حول لهم ولا قوّة.
في الموت الذي لا يرحم
"زمننا على الأرض يمضي بسرعة... كم هي ضيّقة الدائرة المعطاة لنا" (أخماتوفا)
"الموت هو جزء من الحياة". ما زلت أذكر عبارة سيريل كولار، الممثل والمخرج والموسيقي الفرنسي، التي قالها في الفيلم الأخير الذي أخرجه تحت عنوان "الليالي المتوحشة". رحل سيريل كولار خلال السنة التي تلت عرض الفيلم، الذي حاز أربع جوائز "سيزار"، وذلك إثر إصابته بمرض السيدا، وهو الذي كان عالماً بإصابته بالمرض لدى صناعة الفيلم. لكن إحالة موضوع الموت على نطاق التأمل في الحياة ومجرياتها، ليست سوى مسألة فلسفيّة لا تخفي الخوف من توديع هذا العالم، على علاّته. في مكان آخر من الفيلم يقول كولار صارخاً، وهو العارف بمصيره المحتوم: Je ne veux pas crever - "أنا لا أريد أن أموت"، ويبدو أن تلك الصرخة قد تصدر عن كل من يشعر باقتراب النهاية.
لكن صديقنا سيرغي فارابيوف ربما شاء عكس الآية، فذهب إلى النهاية صاغراً. كان سيرغي، الإنسان الشديد اللطافة، ومتخرج الأكاديمية التي احتوتنا معاً ذات يوم، قد بنى منزلاً بيديه، وبمساعدة زوجته في محلّة كورغولوفا بضواحي سان بطرسبورغ. منزل أقرب إلى الحلم وإلى الحكايات، في محيط طبيعي، بعيداً عن البشريّة. ساعده في ذلك حبّه للطبيعة، وتخصصه في فن تصنيع الأثاث من الخشب وذوقه الرفيع، البعيد عن التصنّع. عاش في المنزل مع زوجته Alla ، الكثيرة اللطافة بدورها، التي لم يُرزق منها بأولاد، فاستعاض عنهم بأصدقاء كان يستقبلهم في بيته، ويُقدّم إليهم طعاماً طبيعياً مصنوعاً من نتاج حديقته الخاصة، ومما تنبته الأرض بنفسها.
لم أر المنزل بأمّ عيني، إذ لم تُتح لي الفرصة لزيارته. وإذ رأيت صوره مراراً على صفحة سيرغي الفيسبوكيّة، وعدته بأن أكتب شيئاً عن مأواه وطريقته الخاصة في العيش، وكان فرحاً بذلك. وها أنا الآن في صدد القيام بهذه المهمة، من دون أن تتوفّر الفرصة لسيرغي أن يرى نتيجتها يوماً. أصيبت Alla بمرض لا أعرف فحواه وأظنّه خبيثاً، وقضت بسرعة في بداية الصيف الآفل. لم تتوفّر لي تفاصيل عن هذا الرحيل المفجع، الذي طاول سيرغي بقسوة نخرت عظامه. تابعت أخباره التي أضحت قليلة، ثم فوجئت بإنقطاعها، ولم أر سوى صورة تجمع الزوجين على صفحتهما الفيسبوكيّة، صورة كنت رأيتها قبلاً. لم أشأ التفكير في أي أمر، إذ كنت كمن أراد، في سرّه، أن يتجاهل مفاجأة مقبلة. جاءني الخبر اليقن، المؤسف، من الأصدقاء وأنا في المدينة: سيرغي رحل بدوره بعد شهرين على وفاة زوجته، تبيّن أن قلبه الضعيف لم يحتمل غياب زوجته التي كان يعشقها. سمعت صوت أخماتوفا، مرّة أخرى، قادماً من الغيب، تقول:
"لقد انتقلت أرواح كل أعزائي إلى النجوم.
أشكر الرب إذ لم يبق لي أحد لأخسره".
( محمد شرف )