لم يكن هاجس الرئيس إيمانويل ماكرون من لقائه الرئيس ميشال عون والوزير جبران باسيل أن يبحث في العقبات التي تعترض ولادة حكومة جديدة. فهذا شأن تفصيلي يفضّل ماكرون أن يتركه للبنانيين لكي يتدبَّروه على طريقتهم. لكنّ الرئيس الفرنسي إستفاد من اللقاء لينقل إلى الجانب اللبناني تحذيرات من مخاطر معيّنة تهدِّد إستقرار لبنان في هذه المرحلة، ولها ارتباطات إقليمية. وفي ضوء هذه المخاطر، يصبح طبيعياً أن يعي الجميع مسؤولياتهم ويسهّلوا إيجاد حكومة فاعلة وقادرة على المواجهة.
 

لم يكن باسيل أساساً في عداد الوفد الرئاسي إلى القمّة الفرنكوفونية في يريفان، بل كان منشغلاً بتوزيع الدعوات إلى قمّة بيروت الإقتصادية العربية في 19 و20 كانون الثاني المقبل. وفيما كان في عمّان والكويت، تبلَّغ أنّ ماكرون يتمنى عليه المشاركة في القمّة، وأنّه ألحَّ عليه في الطلب 3 مرّات، لأنّه يرغب في أن يكون حاضراً عند لقائه وعون. وهذا ما حصل.

البعض سارع إلى استنتاج أنّ ماكرون أراد الإبلاغ الى باسيل اقتراحات معيّنة لتسهيل ولادة الحكومة، إنطلاقاً من حرص فرنسا على الإنتهاء سريعاً من هذه الأزمة. لكن المعلومات التي توافرت عن اللقاء، أشارت إلى أنّ الأمر يتعدّى ملف الحكومة. 

في القمّة اللبنانية - الفرنسية، في يريفان، نقل ماكرون إلى عون وباسيل تحذيرين جدّيين لهما خلفيات إقليمية، وهما:

1- أراد ماكرون أن يُطلِع الجانب اللبناني على حجم المخاوف المتأتية من التصعيد الإسرائيلي الأخير تجاه لبنان، والتهديدات المُرفقة بتوجيه ضربة عسكرية إليه، في العاصمة بيروت، وهي تهديدات غير مسبوقة منذ زمن بعيد. 

وشرح ماكرون، أنّ رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو غاضب جداً من ردَّة الفعل الصادرة عن لبنان الرسمي تجاه خطابه في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وأنّه لم يكن يتوقع أن تردَّ عليه وزارة الخارجية بحملة ديبلوماسية وبتنظيم جولة ميدانية للطواقم الديبلوماسية في الضاحية الجنوبية من بيروت ومحيط المطار، أي المناطق التي أشار فيها إلى وجود صواريخ «حزب الله».

فكلام نتنياهو عن وجود الصواريخ، من منبر الأمم المتحدة، يهدف إلى إظهار أنّ أمن إسرائيل في خطر. وتالياً، هو يطلب من المجتمع الدولي تغطية سياسية ودعماً تجاه أي ضربة محتملة ضد «الحزب» في لبنان. وفي الوقت عينه، يحتاج نتنياهو إلى تظهير موقف متشدّد في الدفاع عن أمن إسرائيل، مع إقتراب الإستحقاق الانتخابي هناك. 

وشرح ماكرون، أنّ الحملة الديبلوماسية والميدانية التي نظّمها لبنان الرسمي زرعت الشكوك، ولو بنسب مختلفة، في صحة ما أورده نتنياهو من إتهامات، ما شكّل إحراجاً له وأثار غضبه. فطريقة الردّ اللبنانية هي الأولى من نوعها. وفي العادة، يُطلِق الإسرائيليون تهديداتهم ولا يُقابَلون بتحرّك ميداني من جانب الدولة اللبنانية، بل بمواقف سياسية.

وقد علَّق عون وباسيل على ما يطرحه ماكرون بالقول: «نحن نضمن أنّ لبنان لن يكون مبادراً إلى ممارسة أي عمل عسكري، ونطلب منكم أن تمارسوا الضغوط على إسرائيل لتضبط استفزازاتها». وتوجّها إليه بالسؤال: «أنتم، هل عندكم معلومات عن وجود صواريخ لـ»حزب الله» في محيط المطار»؟ فأجاب: «مَن يتحدث عن الصواريخ هو نتنياهو وليس نحن».

وردّاً على قول الإسرائيليين إنّ لبنان سحب الصواريخ من تلك الأماكن، بعد 3 أيام من تهديد نتنياهو، طرح الوفد اللبناني على ماكرون السؤال الآتي: «إذا كان الإسرائيليون يتحدثون عن صُوَرٍ للمنطقة التي يقولون إنّ الصواريخ موجودة فيها، أليس الأحرى أن تتوافر لهم أيضاً صُوَرٌ لعملية سحب الصواريخ المزعومة؟».

2- أراد ماكرون تظهير الخوف الفرنسي والأوروبي من «تسرُّب» مجموعات كبيرة من النازحين السوريين من لبنان إلى أوروبا. وأشار إلى أنّ وزير خارجية قبرص أبلغ الى الإتحاد الأوروبي أنّ عدداً من القوارب التي تنقل النازحين السوريين بدأت تصل من لبنان إلى قبرص. وعرض ماكرون تقديم مساعدات للبنان في مقابل أن يحتفظ بالنازحين على أراضيه. 

ردّ عون وباسيل برفض هذا العرض، وأبلغا الى الرئيس الفرنسي أنّ الأفضل هو الطلب من الأمم المتحدة أن تشجِّع النازحين على العودة إلى سوريا طوعاً، أي أولئك الذين يرغبون بالعودة، بملء إرادتهم، وأن تقدِّم لهم المساعدات في سوريا، بعد العودة. وأمّا اليوم، فالأمم المتحدة تقوم بدور سلبي، إذ إنّها لا تشجع النازحين على العودة ولا تقدِّم لهم المساعدات إلّا في مناطق نزوحهم خارج سوريا، وهذا ما يساهم في تطبيع إقامتهم هناك، ومن ثم توطينهم.
وذكّر الجانب اللبناني بأنّ هناك كثيرين من السوريين الذين يمكنهم العودة إلى أماكن آمنة في سوريا، ومنهم كثيرون صوَّتوا للرئيس بشّار الأسد في سفارة بلادهم في لبنان، وهؤلاء لا يخشون العودة أمنياً.

ودار نقاش بين ماكرون وعون وباسيل حول السبل الآيلة إلى منع «تسرُّب» النازحين من لبنان إلى أوروبا، وطرح الفرنسيون أفكاراً وآليات مختلفة. كذلك تطرّق ماكرون إلى أهمية مؤتمر «سيدر» في دعم لبنان ليتمكّن من مواجهة الإستحقاقات الصعبة، وأبرزها ملف النازحين. وهنا جدّد الجانب اللبناني تمسّكه بأولوية عودة النازحين السوريين ومساعدتهم في بلدهم. وقال: «إذا كان المقصود هو إثقال لبنان بمزيد من الديون من أجل تدعيم وجود النازحين على أرضه وتوفير فرص عمل لهم في لبنان، فإننا نعتبر الأمر سلبياً ولا يخدم المصلحة اللبنانية». 

وقال عون وباسيل لمحاورهما الفرنسي أيضاً: «إننا لا نريد أموالاً من مؤتمرات الدعم، إذا كان ثمنها باهظاً على لبنان كوطن. وأهمية المؤتمرات تكمن في ما تمنح لبنان من دعمٍ حقيقي لتجاوز الأزمات، وإلاّ فإنها لا تعنينا». 

إذاً، هاجسان ارتكز إليهما خصوصاً لقاء ماكرون مع عون: التصعيد الإسرائيلي والنازحون. وبناء عليهما، وجّه الدعوة إلى تسهيل ولادة الحكومة في أقرب ما يمكن، لأنّ ذلك يساعد على تثبيت الإستقرار بمختلف وجوهه: السياسي والأمني والاقتصادي، وتسهيل إنجاز البنود التي تمّ إقرارها في مؤتمر «سيدر»، والتي يحرص عليها الجانب الفرنسي.

وفي هذا الشأن، أظهر ماكرون إستعداداً لتقديم أي مساعدة من باب الصداقة التي يقيمها الفرنسيون مع الجميع. لكن تفاصيل الخلافات بين القوى اللبنانية تبقى شأناً داخلياً لبنانياً. فلا فرنسا ترغب في أن تتدخّل فيه، ولا الجانب اللبناني يرغب في إقحامها.