اقترب موعد تأليف الحكومة أكثر من أيّ وقت مضى، وكل محاولات الوزير جبران باسيل لتأخير ساعة ولادتها لم تفلح في تحقيق أهدافها، وفي هذا الإطار بالذات يمكن إدراج مؤتمره الصحافي الذي بدّد فيه كل المناخات الإيجابية التي عمّمها الرئيس المكلف سعد الحريري، ومن ثمّ مقابلته التلفزيونية التي كرّر فيها ما جاء في هذا المؤتمر من تمسّك بوجهة نظره الحكومية التي حالت وتحول دون تأليف الحكومة.
ورداً على الانتقادات الواسعة لمواقفه خشية من أن تكون أعادت التأليف إلى المربع الأول، وضعت مصادر «التيار الوطني الحر» كلام باسيل في إطار إبداء الرأي وحقه في التعبير عن رأيه، وهذا حقه بالتأكيد، ولكنه في نهاية المطاف يتحدث من موقع أكبر كتلة برلمانية وليس من موقع الصحافي أو الناشط السياسي، ما يعني أنه من موقعه بالذات يضع كل ثقله لمنع ولادة الحكومة إلّا بشروطه، وعلى هذا الأساس حاول قطع الطريق على محاولة الحريري بالتعاون مع الرئيس ميشال عون لاستيلاد حكومة متوازنة وطنيّاً وتعكس نتائج الانتخابات.
وفي حال تكلّلت مساعي الحريري بالنجاح فهذا يعني أنّ رئيس أكبر كتلة نيابية فشل في فرض شروطه، فيما لا يمكنه الكلام عن مساهمته في ولادة الحكومة العتيدة، لأنه كان في استطاعته بكل بساطة ملاقاة الحريري بأفكار إيجابية وبنّاءة بدلاً من قطع الطريق عليه من خلال تمسّكه بسقفه التحجيمي للآخرين وشروطه التي لا تنسجم مع نتائج الانتخابات.
وأما مناسبة هذا الكلام فمردّها قول باسيل في ذكرى 13 تشرين: «ردُّنا عليهم أنه ستكون عندنا حكومة قريباً، هكذا يكون انتصارنا هذه المرة بعدما تأكدت نيّاتهم بعدم السماح بتأليفها»، وهذا القول تكرّر في كل مقاطع خطابه، وتفسيره له معنى واحد وهو أنّ البلاد تتّجه إلى ولادة حكومة أكثرية تُقصي «القوات» و»الإشتراكي» او تحجِّمهما، وأما في حال تأليف حكومة وحدة وطنية فيعني سقوط كل محاولاته الاستئثارية، وهو كذلك، ومن الواضح أنّ كلامه يعني تسليماً بولادة حكومة خلافاً لرغبته وإرادته، وأنه أراد التمهيد لولادتها عن طريق المزايدة بالسعي إليها، علماً أنّ القاصي يعلم، كما الداني، أنه المسؤول الأول والأخير عن الفراغ بسبب سعيه الى «الثلث المعطل» وتحجيم «القوات» و»الإشتراكي»، وكلامه هو محاولة لركوب القطار وتوسعة كوعه بعدما أدرك استحالة أن يستمرّ في تعطيله.
فالقرار بولادة الحكومة اتُخذ، ولم يتمكّن باسيل من إسقاطه، وأقصى ما يستطيع فعله هو أن يمنّن النفس بأنه حاول ولكنه فشل، وهذا القرار متأتٍ من ضغوط دولية وأخرى اقتصادية تحذّر من استمرار الفراغ، وبالتالي تتّجه البلاد إلى حكومة جديدة، ولكنّ السؤال الكبير الذي يطرح نفسه: هل الخلافات والانقسامات التي شهدتها البلاد عشية الانتخابات وبعدها ستنتقل إلى داخل الحكومة، أم أنّ تأليفها سيفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التعاون تشبه انطلاقة حكومة العهد الأولى؟
وفي سياق متصل ومختلف في آن معاً، هل يمكن الكلام عن معارضة، وكيف؟ وهل من جدوى لجبهة معارضة؟ لا شك بداية أنّ الحياة السياسية لا تستقيم بلا موالاة ومعارضة، وهذا المنحى يجب تأكيده وتطويره وتشجيعه وترسيخه، ولكن في الوقت نفسه يجب التشديد على المسلّمات الآتية:
ـ أولاً، لا يمكن الكلام عن معارضة فعليّة ومؤثرة إذا لم تكن عابرة للطوائف، أو تنطلق من مرتكزات طائفية تمثيلية فعليّة وتسعى الى التوسع في اتّجاه الطوائف الأخرى على غرار الحالة التي تمثّلت بلقاء «قرنة شهوان».
ـ ثانياً، لا يمكن الكلام عن معارضة فعلية ومؤثرة إذا لم ترتكز على أحزاب تمثيلية على غرار الأحزاب الستة المشاركة في الحكومة والتي شكّلت القاعدة الصلبة لعهد عون، أي الثنائية الحزبية الشيعية والثنائية المسيحية و»المستقبل» و»الإشتراكي»، وكل ما هو خلاف ذلك يعبِّر عن معارضة تجميلية للحياة السياسية، ولكنها تفتقد إلى قدرة التأثير والتغيير.
ـ ثالثاً، لا يمكن الكلام عن معارضة فعلية ومؤثرة إذا لم يكن هدفها إسقاط الحكومة وتسليط الضوء على فشلها وعجزها.
ـ رابعاً، لا يمكن الكلام عن معارضة فعلية ومؤثرة إذا لم تسقط التمييز بين عون وباسيل، وبالتالي تركِّز مواجهتها على عون لا باسيل.
ـ خامساً، لا يمكن الكلام عن معارضة فعلية ومؤثرة إذا لم تزاوج بين البعدَين السيادي والإصلاحي، فتركِّز مواجهتها على «حزب الله» وسلاحه، وتغطية العهد هذا السلاح، كذلك تركِّز على استمرار حالة المزرعة لا الدولة التي يريدها الناس ويطمحون إليها.
ـ سادساً، المعارضة المدنية التي برزت تحت مسمى «الحراك المدني» مُنيَت بفشل ذريع، ولا مؤشرات إلى قدرتها على إعادة فرض نفسها على الواقع السياسي.
ومعلوم أنّ الخلل البنيوي في ثنائية 8 و 14 آذار كان في ضعف المكوّن السنّي في 8 آذار وضعف المكوّن الشيعي في 14 آذار، ومن المعلوم أيضاً أن لا 8 آذار نجحت في إسقاط 14 آذار في الضربة القاضية، ولا العكس أيضاً، وهذا بالذات ما استدعى المساكنة حفاظاً على الاستقرار، ولأنّ الناس ملّت هذا النزاع المفتوح والذي يستحيل أن يحقق نتائجه ودفعت في اتجاه رفع أولوياتها الحياتية على أيّ اعتبار آخر، وما يمكن ملاحظته في وضوح أيضاً أنّ «حزب الله» وعلى رغم احتفاظه بسلاحه بدّل إلى حدّ كبير في سياسته الداخلية لجهة تحييد لبنان عن سياسته الإقليمية والعدول عن محاولات التخلص من خصومه بعدما أيقن استحالة ذلك، وهذا أقصى ما يمكن الوصول إليه في المرحلة الحالية.
وختاماً لا بدّ من التساؤل الآتي: هل يتحمّل باسيل دفع «القوات» و»الإشتراكي» واستطراداً «المستقبل» إلى المعارضة؟ وهل يتحمّل باسيل إحياء الانقسام العمودي؟ وهل يستطيع العهد أن يحقق الإنجازات التي يعد الناس بها في ظلّ انقسامٍ عامودي؟ وهل «حزب الله» في وارد تغطية خطوة من هذا النوع في ظلّ مواصلته تبدية الاستقرار وتجنّب الانقسام على أيّ اعتبار آخر؟ وهل خروج «القوات» إلى المعارضة سيدفعها الى إسقاط أيّ تمييز بين عون وباسيل وإعلانها معارضة شاملة ومفتوحة؟
ويبقى أنّ المعركة التي خاضها باسيل لفرض حكومة بشروطه انتهت إلى هزيمة، وستؤلّف الحكومة بنواتها الأساسية التي أوصلت عون إلى بعبدا، ومن مصلحة باسيل ومصلحة البلاد تغيير تكتيكه في مواجهة كل القوى السياسية مجتمعة، أو الواحدة تلو الأخرى، لأنّ انعكاس هذه السياسة كان سلبياً جداً عليه على المستوى الشعبي، وهذا بالذات ما دفعه إلى الماضي المزوّر ونبش دفاتره علّه يستعيد شعبية مفقودة بعدما وجد نفسه عاجزاً عن التصدّي لمشكلات الحاضر وإعطاء الناس الأمل بمستقبلهم في هذا البلد.