العراق هو المركز في المنطقة. الانهيار، بدأ منه وتمدّد إلى كل المواقع والدوائر. بعد ثلاثة عقود وأكثر، تبدو إعادة التشكل والبناء وكأنها ستبدأ منه لتنتشر ببطء إلى باقي الدوائر المشتعلة أو المضطربة.
من الواضح الآن، أن النظام العراقي قد «تلبنن». الطائفية تفرض نفسها في توزيع المراكز والمواقع بدون «ورقة التوت» لإخفاء هذا الانحدار السريع. يُضاف إلى ذلك، التوزيع حسب القومية. من الصعب جداً، لسنوات طويلة، أن يتم إقناع الطوائف والقوميات بتقديم أي تنازل، لأن معنى ذلك التسليم بالضعف أمام القوي. نقطة التوازن في هذا التوزيع، أن لا أحد يمكنه أن يلغي أحداً. اللعبة أصبحت مكشوفة. أي محاولة لكسر قواعدها تفتح أبواب العراق أمام «نار» الحرب الأهلية. من يمكنه بعد اليوم أن يقول للشيعي إن رئاسة الوزراء ستكون لسنّي مهما بلغ من حضور قيادي، ومن يمكنه أن يقول للأكراد إن رئاسة الجمهورية ليست لكم. حتى السنّي الذي تلقى أوزار «النظام الصدامي» لا يمكن سحب رئاسة مجلس النواب منه، تماماً كما يحصل في لبنان. ربما يلزم العراق لاحقاً «مؤتمر طائف» آخر لتحقيق نوع من التوازنات الجديدة في الصلاحيات والممارسة. ما كان يُقال همساً عشيّة الغزو الأميركي لبغداد حوَّل المخاوف من «اللبننة» إلى واقع دستوري.
أيضاً، استكمال «اللبننة» في العراق، يتم عبر تجاذبات «الباب العالي». المقصود أن إيران والولايات المتحدة هما «الباب العالي» للقوى السياسية. من يخرج عن طاعة «الباب العالي» الذي سلّم له الولاء، يُنحر أو يُلغى. أكثر ما يمكن للأذكياء، النجاح في الجمع في الانتماء إلى «البابَين» من دون أن تبدر منه غلطة الانحياز الكامل، لأنه عندئذٍ يكون قد وضع نفسه على مقاعد المنتظرين لفوز أحد «البابَين»، وهو حالياً ولفترة مفتوحة صعب وربما مستحيل.
واشنطن لن تترك الساحة العراقية، بعد الكلفة الضخمة المالية والبشرية التي دفعتها. بدورها فإن إيران لن تتخلى عن «الكنز» العراقي الذي كانت تحلم به منذ قرون طويلة، فهو الامتداد الجغرافي والسياسي لها. باراك أوباما وقبله جورج بوش الرئيسان الأميركيان قدّماه لإيران على «صينية من ذهب»، وهي لن تقدّمه لها مع كل ما يعني لها جغرافياً وسياسياً واقتصادياً ومذهبياً.
الانتخابات الأخيرة والتسميات التي حصلت أكدت حصول نوع من التوزيع الطائفي المتوازن، مع انحياز معقول حتى الآن في التسميات لمصلحة إيران على حساب أميركا. ذلك أن رئيس المجلس، السُّني محمد الحلبوسي المعروف بعلاقته منذ بدأ نشاطه في الأنبار، مع إيران. في حين أن خللاً وقع لمصلحة إيران في الإقليم الكردي وذلك مع خسارة حزب مسعود البرزاني لموقع الرئاسة، علماً أنه يجري العمل للتعويض عليه في تشكيل الوزارة. أما بالنسبة لرئاسة الحكومة وهي المنصب الأبرز والأهم، فإن عادل عبد المهدي المثقف سياسياً وصاحب التجربة الطويلة من الولادة حتى رئاسة الحكومة، قادر على الإمساك بـ«عصا السلطة»، من دون الانزلاق كثيراً نحو إيران أو الابتعاد وحصول محظور الطلاق مع الأميركي. ما يؤكد قدرته هذه أنه عايش التجربة اللبنانية على الأرض، وخبُر الديموقراطية بكامل تكلفتها ونتائجها في فرنسا، وأنه يعرف الخريطة السياسية العراقية بكل تفاصيلها نتيجةً لنضالاته التاريخية مع مختلف صانعي التغيير في العراق.
كلما نجح عادل عبد المهدي في الإسراع بتشكيل الحكومة، ووضع العراق على سكة التوازن، سينسحب حكماً إلى لبنان. التجربتان متشابهتان بعيداً عن الفارق الكبير في الكلفة.
شعور إيران بالراحة من الوضع في العراق، في وقت تعيش وضعاً سياسياً صعباً ودقيقاً وحسّاساً داخلياً وخارجياً، سيدفعها حكماً إلى تخفيف الضغوط في لبنان. ما يهمّ إيران في لبنان أولاً وأساساً «سلامة» «حزب الله» وضمان موقعه الذي هو في المبدأ «بوابتها» في هذا الموقع الفريد والحسّاس على شاطئ البحر الأبيض المتوسط.
تقديم إيران التنازل في لبنان، يحمي ظهر «حزب الله»، الذي من الواضح أنه أصبح قادراً على فرض نفسه وموقعه كما يرغب، لكن ذلك وإن كان يقوّيه في الشكل، إلاّ أنه يُضعفه في الأساس، لأنه يكشف ظهره ومعه إيران أمام الولايات المتحدة الأميركية التي لا تحتاج مع الرئيس دونالد ترامب أكثر من الحوافز التي يملكها للانقضاض هنا وهناك. ودائماً في ساحته المفضّلة حالياً الاقتصادية والمالية والمصرفية.
إيران، تريد الوصول إلى فترة العقوبات القادمة في نوفمبر/ تشرين الثاني من دون مواجهة مشاكل إضافية، خصوصاً في الخارج. هذا الموقف ما كان ليحدث لو لم تكن تمر في مرحلة من الدفاع عن نفسها بدلاً من حالة الهجوم التي اعتمدتها منذ أكثر من عقد من الزمن.
الأزمة الداخلية في إيران أصبحت مكشوفة وبقوة. لا يعني ذلك أن النظام سينهار غداً. ما زال هذا النظام الذي «شاخ» بفعل ثلاثين سنة بالقيادات نفسها، وبقواعد المواجهة ذاتها، يملك احتياطاً مهماً. حالياً، أبرز الانهيارات ستتبلور في دفع الرئيس حسن روحاني نحو التخلص من فريقه الوزاري خصوصاً الاقتصادي منه، مع محافظته على موقعه بحيث يدير المؤسسات من دون أن يحكم أو حتى أن يقرر، وذلك حتى إشعار آخر مرتبط بوجود المرشد آية الله علي خامنئي.
صمود النظام ليس مفتوحاً زمنياً أمام الأزمات السياسية والاقتصادية من إضراب الشاحنات الذي يطال في تردّداته البازار وكل بيت إيراني، وصولاً إلى تحوّل الإضرابات في البازار، ومواجهة العمليات العسكرية التي مهما بدت محدودة فهي مؤثرة لأنها تطال الداخل والتركيبة العرقية والقومية المعقدة.
الخيارات محدودة.. إمّا أن يكون حسن روحاني «غورباتشوف» يدمّر النظام، أو كما يرغب ويطمح دينغ كسياو بنغ الإصلاحي الذي أنقذ النظام وحدّث الصين.