وددت هذا الأسبوع أن أتكلم على العلّة القاتلة فينا، وأن أجعل القلم يستريح من الدنس السياسي، وقد ملَـلْنا احتقار أنفسنا بسبب الذين نكتب عنهم.
وإنما استوقفني الذين قالوا وكتبوا بأن الحكومة ستؤلَّف عندنا ما دامت الحكومة قد تألفت في العراق، وكأن حكومتنا ستحمل الترياق من العراق لمعالجة الجسم اللبناني المنتفخ ورماً من سموم الأفاعي.
والحقيقة أن العلّة المستفحلة عندنا لا يتأمّن شفاؤها بترياق العراق، بل بترياق الأخلاق كما يقول الشاعر أحمد شوقي:
وإنَّما الأُمَـمُ الأخلاقُ ما بقيَتْ فإنْ هـمُ ذهبَتْ أخلاقُهُمْ ذهبوا.
ولست أدري ما إذا كانت الأخلاق عندنا قد ذهبت أو لم تذهب، وما إذا كنا ذهبنا معها، أو إننا على طريق الذهاب، ولكنني أدري أن الذين يذهبون مع أخلاقهم، فلا هي تعود، ولا هُمْ يعودون.
نحن منذ الإستقلال، وُلـِد عندنا الحكام بالخطيئة السياسية الأصلية التي هي خطيئة اللاّ أخلاق، ولم يلجأ أحدٌ الى التوبة والإستحصال على صكوك الغفران.
المصائب المتراكمة عندنا، وكل التعقيدات والأزمات الوطنية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية كانت بسبب أزمة الأخلاق، لا أزمة النظام ولا أزمة القانون ولا أزمة الدستور، الأخلاق هي دستور الأمم ودستور القيم، وبالقيم الأخلاقية تستقيم القوانين والدساتير وتعدُل الأحكام ويسود النظام.
الأمبراطوريات والممالك في التاريخ، على شموخ عظمتها واتِّساع سيطرتها ما هبطت في المهالك إلا بفعل أزمة الأخلاق، التي تجعل الحكم فاسداً والحاكم ظالماً والقانون منتهكاً.
علّـةُ الأخلاق في بلاطات سلاطين بني عثمان وسيطرة الجواري والخصيان انهارت معهما الأمبراطورية المترامية الأطراف الى ما سمِّي «بالرجل المريض».
وفساد الأخلاق في بلاطات ملوك فرنسا جعل الملكة كاترين دي مديتشي تقيم صالون تدريب للنساء الجميلات لإغراء أعدائها ، وقد تسبَّبت ممارستها الطاغية دون رادع أخلاقي في اضطرام الحروب الدينية ومذابحها، مثلما راحتْ عشيقات القصور تتلاعب بالتيجان كما التلاعب بالدُمى، فعمّ الظلم والإرهاب، وكانت الثورة.
والمجتمعات المدنية التي أُصيبت بأزمة الأخلاق مرَّت في مرحلة تحوّل فيها الإستبداد السياسي الى عنف سياسي وإرهاب، وهي الأزمة نفسها التي أدّت الى انهيار الأنظمة العربية إنطلاقاً مما يعرف بالربيع العربي، فكان الإرهاب السلطوي والإرهاب الفوضوي والإرهاب الشعبي.
القانون الوضعي الذي انطلق في فلسفة الأديان كما في معظم الفلسفات من المبادىء الأخلاقية وحكم مدينة الله عند سقراط وأرسطو وأفلاطون والقديس أوغسطينوس، ومقدمة إبن خلدون، وآراء أهل المدينة الفاضلة، هذه النظريات كلّها تساقطت مع تطور الزمن الى التقهقر الهمجي، الى اللاّ أخلاق.
وبين المبادىء الفلسفية والفلسفة الدينية قاسم مشترك أسمى هو الله الذي يجسِّد التصوّر الأخلاقي عند روسو، والمبدأ الأخلاقي عند باركلي Perkly، وهو شـرطٌ لكل أخلاقية لدى كانط kant، وهذا يتلاقى مع مذهب المسيحية والإسلام.. لأن الأخلاق عند المسيحية هي أساس الخلاص، وهي عند الإسلام أساس الشريعة.
إسمعوا ما يقولون:
- الإنسان الشرير من قلبه الشرير يخرج الشر... (المسيح)
- إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق.. (النبي).
- إنّ الله جعل مكارم الأخلاق ومحاسنها وصلاً بيننا وبينه.. (الإمام علي).
لعل بعضهم يرى أنني توغَّلْتُ في عمق فلسفة الأخلاق ومنابعها بما يشبه الإستعراض النظري في المحاضرات، نعم... إنني تقصّدت إبراز هذه المبادىء الأخلاقية لكبار الفلاسفة ومرجعيات الأديان، لتشكّل صفعةً أو صحوة لأصحاب العقول الموبوءة بالفساد، لعلهم يهتدون أو على الأقل... يخجلون.