قال محدثي ان اللبنانيين لن يثوروا الا اذا جاعوا. وما دام الطعام متوفراً، فسيبقون على التزامهم للطائفة بفعل غياب الدولة. وسيكتفون بشتم زعماء مذاهبهم وانتقادهم، ومن ثم اعادتهم عبر صناديق الاقتراع الى السلطة.
لكن محدثي نبّه الى ان التركيبة الطائفية التي حلت محل الدولة أصبحت بدورها عاجزة عن القيام بما يجب لتوفير الحياة اللائقة لجماعاتها. ومع الوقت سوف تنهار على رغم تمسك الجماعات بها حتى الآن.
هي بحكم الانهيار او في الرمق الأخير، لأن لا بديل. وعلى رغم الأوضاع المتردية اقتصادياً واجتماعياً، لن تنزل الجماهير الى الشارع. والتغيير لن يحصل الا عند الجوع. والجوع ليس قريباً في جمهوريتنا المتداعية.
لم يتطرق مُحاوِري الى التعصب الاعمى الذي يتحكم بالجماهير ويحرّكهم غرائزياً. ولا أظن ان الملاحظة سقطت من كلامه سهواً. بشكل ما، أعاد الأداء الطائفي الى منحاه الانتفاعي. باختصار، فشل الدولة هو مصلحة لأهل الطوائف وأهل السلطة. ونجاح الدولة هو حكمٌ بالقضاء على الحواجز الطائفية، ما يُفقد المؤسسات الدينية والطبقة السياسية امتيازات يدفع المواطن ثمنها من استقراره الأمني والاقتصادي والاجتماعي والصحي.
فالجماهير التي تتسول هذا الاستقرار، حاضرة للاستمرار في تسولها اذا أمّنت لها دويلاتها الطائفية الحد الأدنى من مسلتزمات سلة الغذاء والطبابة والتعليم. لكن عندما تعجز هذه الدويلات عن تقديم المسلتزمات وصولاً الى الجوع، حينها لكل حادثٍ ثورته.
والا كيف يسكت اللبنانيون على مصادرة حقوقهم وانتهاك كرامتهم والاستخفاف اليومي بهم؟
كيف يقبلون بهذا التدجين المكثف؟
وكأن عدوى الاستخفاف انتقلت من زعمائهم اليهم. أن تُقمع حرية أو يُصار الى منع لقاء واظهار الساعين اليه كأنهم زمرة تافهون يعيشون خارج المجرة، لا يحرك لدى الناس بمختلف انتماءاتهم ومشاربهم أي شعور بالاستفزاز.
ربما الامر مبرر، عندما نفكر في الهموم التي تُغرق هؤلاء الناس والأزمات التي تلاحقهم، فلا يرفعون رؤوسهم لينتبهوا الى ما يدور في عقر دارهم. ويصبحون لامبالين حيال ترف التعبير عن الرأي والمطالبة بصون الحريات العامة واستنكار إخراس الأصوات التي تزعج السلطة المستزلمة لوصايات من هنا وهناك. فالاولويات في مكان آخر. هي ترتبط بفرص العمل وتأمين تكاليف المدرسة والجامعة والمستشفى. اما الوصايات وحرية التعبير فلا وقت للالتفات صوبها.
لكن المخيف هي اللامبالاة المقرونة بالاستخفاف لدى من يفترض انهم النخبة او قادة الرأي حيال مواصلة الدويلات قمع الحريات كيفما تستطيع الى ذلك سبيلاً.
قبل اللوم وبعده. ما يخيف أكثر، تبقى مواجهة محطة مشبعة بألم الروح والعقل بالصمت والاذعان والكذب على الذات والعجز عن الرفض والادلاء بشهادة حق ضد باطل.
لنعترف ان النخبة لم تعد تكتفي بالتقية والمراعاة، فهي تجاوزتها لتصل الى اقسى درجات القمع الذاتي التي يلتزمها النخبويون عندما يتعلق الامر بمعسكراتهم الفكرية او الطائفية. فالالتباسات بين المفاهيم أصبحت اصعب من ان تفك طلاسمها، على ما يبدو.
مثل هذه المحطة تصفع التذاكي الفاقع الكفيل بأن يكشفنا ويعرينا أمام أنفسنا ونحن نخترع الذرائع التي نُخرِس فيها حق الاعتراض وواجب الاعتراض والادانة. نحن نقتل أصواتنا ونبتلع كلماتنا التي تضج في عقولنا واقلامنا ووجداننا عندما يقع عندنا حدث جلل يشبه ما يحصل عند من ندين. نتصرف وكأن جمهوريات البؤس الفكري مقتصرة فقط على الآخرين، مع اننا نقبع وإياهم فيها ونفتش في مجاريرها عن مبررات الصمت حيال كل هذه الوحشية التي تغرقنا أكثر فأكثر على حساب انسانيتنا.
كل هذه الوحشية التي نرضى بها كلبنانيين وعرب وكائنات تنتمي الى الدين والطائفة والمذهب ومواطني عالم تجاوز المرتبة الثالثة منذ زمن، تسقط مبرراتها لحظة الوقوف عند محطة مشبعة بألم الروح والعقل.
ويسقط معها الحق في مطالبة الآخرين بأن يرفضوا هيمنة ووصاية تقودانهم الى الإذعان لديكتاتوريات تقضي على الدولة لحساب الدويلة الطائفية، وبأن يشاركوا في أي تحرك لقمع الحريات.
ليست مسألة تتعلق بجلد الذات، ان نلوم انفسنا على صمتنا، هي لحظة تشريحية ضرورية. فالمحطات الدامية فرصة لتصويب الأداء. القمع قمع أينما حصل. والجريمة لإخراس المعارضين جريمة لا تبررها الاستفاضة في شرح نظريات المؤامرة. كذلك لا يبررها الانتماء الى ايديولوجيات او قوميات. كل الحسابات يجب ان تهزم حتى لا نصمت عن الحق. فالساكت عن حق شيطان أخرس والصوت حق لنا وواجب علينا في جمهورية الانسان.