في الترحيب باختيار برهم صالح رئيساً لجمهوريّة العراق، وتكليف عادل عبد المهدي تشكيل حكومته الجديدة، تحضر عبارة تتكرّر في أشكال عدّة: لقد درس في جامعات الغرب. الشيء نفسه سبق أن قيل حين كُلّف عمر الرزّاز تأليف الحكومة الحاليّة في الأردن. هذه العبارة يصحّ فيها أنّها سيف ذو حدّين. فهي تتسلّل من تحت طبقات الكلام التي تراكمت في العقود الثوريّة والانقلابيّة على أنواعها، لتعيد ربطنا بالزمن «النهضويّ»، حين وُصف «العلم» بقاطرة التقدّم وشرطه الشارط. أمّا الشقّ المتعلّق بالغرب من الموضوع فـ «نهضويّ» أيضاً: ألا تبدأ قصّة «النهضة» برمّتها مع سفر رفاعة رافع الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق وسواهما إلى الغرب؟ وهذا، بدوره، يتضمّن ميلاً كافحتْه العقود الأخيرة، مفاده التعامل مع الغرب، لا بوصفه مصدر عدوان ونهب واستعمار، بل بوصفه مصدر معرفة وتمكين. ومن هذا التماثل ينبثق تماثل بسيط آخر: فنحن أيضاً مجتمعات طبيعيّة تعافت من نزاعاتها، لا ينقص إلاّ تحسينها بأيدي عدد من المتعلّمين النزهاء الذين جاؤوا من حيث تحسّنت الأمور.
في هذا جميعاً، تُسبَغ ضمناً على الدراسة في جامعات الغرب (وأحياناً يقال: في أحسن جامعات الغرب) فضائل أخلاقيّة تجعلها ضمانة ضدّ الفساد وشهادة حرص على المال العامّ. كما تنمّ العبارة عن حنين إلى أزمنة عاشها بعضنا القليل وسمع بها، أو قرأ عنها، بعضنا الأكبر. أمّا الوجه الآخر للحنين هذا فاحتجاجٌ على زمن حلّ فيه الضابط ورجل الأمن والداعية العقائديّ والمليونير المشبوه محلّ خرّيج الجامعات الغربيّة.
والحال أنّ السِيَر الشخصيّة لصالح وعبد المهدي والرزّاز تخدم قدراً من التفاؤل بهم، من دون أن تخدم نظريّةَ التفاؤل بمبدأ الدراسة في جامعات الغرب. فأوّلاً، يصحّ الشكّ في القدرات الفعليّة التي يتمتّع بها هؤلاء الخرّيجون النزهاء الذين صاروا سياسيّين، ما دامت مسائل السلطة السياسيّة وتقاسمها غير مبتوتة في أيّ بلد عربيّ. ونعرف أنّ أنظمة عربيّة كثيرة بالغت في ابتذال كلمة «تكنوقراطيّ» بحيث باتت تعني امتلاك مؤهّلات السلطة من دون امتلاك شيء من السلطة. وربّما كانت تجربة سلام فيّاض في رام الله أوضح تعابير هذه الحال.
يحيلنا إذاً ذاك التفاؤل، الذي قد يحظى بمبرّرات معذورة، إلى سذاجة مَن يغلق عينيه بقوّة قلبه. فنحن– فقط للتذكير– مجتمعات يستبدّ بها حكّامها إلى حدّ امتلاكها وتوريثها والعبث بحياة أبنائها، وتعصف بها هويّاتها الجزئيّة والفرعيّة فتضعها في قلب الحروب الأهليّة أو على تخومها، وتمزّقها المعارك على أنواعها مُظَلّلةً بممارسات وحشيّة وتبديد للثروات وأفكار قروسطيّة لم تتعرّض لرياح الزمن... وهذا وسواه لا يستطيع التصدّي له بضعة أشخاص متعلّمين ونزهاء يرسمهم التفاؤل بُدلاء عن حركات شعبيّة وتحويلات فكريّة واسعة ومطلوبة. أخطر من ذلك، أنّ رحلة التفاؤل بـ «العلم» الذي «يحسّن أوضاعاً طبيعيّة»، قد ينتهي بأصحابه متفائلين بـ «العمل» الذي يعيد بناء ما «هدّمته الحروب»، على ما يقال اليوم عن «إعادة البناء» في سوريّة. ولا ننسى– ولو سفّ بنا التشبيه– أنّ بشّار الأسد إيّاه كاد يصبح خرّيج جامعة غربيّة.