ثلاثة أسابيع تفصلنا عن تمام السنة الثانية من ولاية رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون. حف انتخابه بعناوين كبيرة حول حقوق المسيحيين وتصحيح الشراكة بين المكونات اللبنانية، وأسبغت عليه معانٍ خلاصية تتجاوز السياسة بمعناها اليومي أو حتى التاريخي.
افتتن عون وفريقه السياسي والدعائي بمفردة «القوة» وتفرعاتها. فالمرشح عون هو الرئيس الحكمي لأنه «الزعيم القوي» الذي عبر قوته يستعيد المسيحيون حقوقهم، وفي ذلك إشارة إلى ضعف مفترض عند من سبقوه في سدة الحكم. وهو الرئيس القوي، المسنود إلى قوة اجتماعية عريضة وتيار سياسي أهداه الكتلة البرلمانية الكبرى. وهو العهد القوي الذي سيكافح الفساد ويشيد البلاد ويفرح العباد...
والقوي هو الجمهورية برمتها، وهو الصلاحيات ومصدر السلطة وصانع السياسات، يسعى، في كل ما يسعى إليه، إلى تثبيت ذلك، بالصلاحيات حيث توفرت الصلاحيات، وبالأسلوب والسلوك حيث ضعفت الصلاحية أو اختُلف على تفسيرها.
ولعل أكثر ما يكشف هذا الملمح في ولاية عون، إدارته مسألة تشكيل الحكومة، مستفيداً من غموض الدستور حول حدود صلاحيته ودوره في التشكيل، ومدفوعاً بشهيته لتثبيت نظام رئاسي بالممارسة. لقد نص الدستور في مادته «53»، على أن رئيس الجمهورية يسمي رئيس الحكومة المكلف استناداً إلى استشارات نيابية ملزمة، ويُصدِر بالاتفاق معه مرسوم تشكيل الحكومة. كما نص الدستور في المادة «64» منه (البند2)، على أن رئيس الحكومة المكلف يجري الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها.
لا يوضح الدستور ما إذا كان توقيع الرئيس إجرائياً فقط، ولا يفسر مسألة «الاتفاق» بين الرئيسين أو آليته، ولا يتطرق إلى معالجات عدم الاتفاق. هذا الغموض أتاح للرئيس عون أن يجعل من توقيعه على مرسوم التشكيلة الحكومية، قوة «فيتو» تكبّل الرئيس المكلف وتجعله أسير شروط رئيس الجمهورية.
والحقيقة أن سلوك عون لم يولد من فراغ تام. فبعد «اتفاق الطائف» وفي ذروة السجالات اللبنانية حول دستور الجمهورية اللبنانية الثانية، اتخذ العونيون ضفة الطعن فيه لأنه جرد الرئيس المسيحي من الصلاحيات الهائلة التي تمتع بها في ظل الجمهورية الأولى، في حين دافع أهل «الطائف»، لا سيما المسيحيون منهم، عن الاتفاق وصلاحيات الرئيس فيه، مشددين على أن الرئيس لا يزال يحتفظ بحق التوقيع على التشكيلة الحكومية، وتعيين الموظفين، ويقرر بالتالي مسار تكوين السلطة، محكوماً بالطبع بنتائج الانتخابات النيابية.
وبالفعل، سبق أن رفض الرئيس السابق ميشال سليمان أول تشكيلة تقدم بها الرئيس سعد الحريري بعد انتخابات عام 2009، ما اضطره لإعادة وضع تشكيلة ثانية، تنسجم مع تقدير الرئيس سليمان للمصلحة الوطنية يومها.
غير أن ممارسة الرئيس سليمان الهادئة لصلاحية التوقيع على مرسوم تشكيل الحكومة، وجذبه الرئيس المكلف نحو معايير وتصور رئاسة الجمهورية للحكومة، لم يثيرا يومها الاستفزازات التي تثار اليوم. فبعد لقاء بين الرئيس المكلف سعد الحريري وعون للتباحث في التشكيلة، أصدر القصر الرئاسي بياناً، جاء فيه أن رئيس الجمهورية أبدى بعض الملاحظات حول الصيغة الحكومية، «استناداً إلى الأسس والمعايير التي كان حددها لشكل الحكومة والتي تقتضيها مصلحة لبنان»، وهو ما دفع رؤساء الحكومة فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وتمام سلام إلى إصدار بيان جوابي شددوا فيه على أن الإشارة إلى «الأسس والمعايير التي كان حددها رئيس الجمهورية لشكل الحكومة إنما هي إشارة في غير محلها، لأنها تستند إلى مفهوم غير موجود في النصوص الدستورية»، وشددوا على أن الرئيس المكلف يضع مشروع تشكيل الحكومة، «دون أن يكون مقيداً بمعايير مسبقة، خارجة عن أحكام الدستور».
مجاهرة عون بالمعايير الرئاسية هي ما أثار حفيظة رؤساء الحكومة، لا سيما أنها جاءت في سياق سلسلة من الاجتهادات الدستورية التي تخترع ضوابط على رئيس الحكومة، في حين أن بيان الرؤساء الثلاثة تناسى أنه سبق لرئيس جمهورية أن رفض تشكيلة للحريري وطالبه بإحداث تغييرات عليها، وهو بالتأكيد فعل ذلك بالاستناد إلى معايير ظلت في ذهنه وإن لم يضعها حبراً على ورق في بيان رئاسي.
هذه واحدة من المساحات الرمادية في الدستور اللبناني التي تجرى فوقها تجاذبات ميزان الشراكة بين المكونات، وهي مشكلة قائمة بحد ذاتها. لكن المشكلة الكبرى أن رئيس الجمهورية ضيع فرصة تحويل هذه الصلاحية المهمة إلى أداة إيجابية، يفرض من خلالها على كل القوى السياسية أن تتمثل في الحكومة بأفضل ما لديها، وأن يلتزم بعدم التوقيع على تشكيلة ما لم تضم نخبة من أصحاب الكفاءة والسمعة الحسنة في أحزابها وتياراتها.
اختار عون، بدل ذلك، أن يدرج هذه الصلاحية في سياق معاركه مع خصومه، لتصغير حصة هذا وإلغاء حصة ذاك، وغرق في لعبة محاصصة استنزفت قدرته على قيادة طرح وطني، يكون ترجمة أمينة لمعنى الرئيس القوي.
ضاعت الفرص. اختار عون الرئيس المستقوي بصلاحية التوقيع، على الرئيس القوي بحصانة المشروع الوطني والإنجاز.
رحم الله الرئيس فؤاد شهاب، الرئيس «الضعيف» الذي أعطانا كل ما بحوزتنا الآن من بقايا ملامح الجمهورية القوية.