وضعت وزارة الاقتصاد الناس أمام وهم. أوحت أن الدولة حاضرة لحماية حقوقهم، لكنها دخلت من الباب الخطأ. الحصول على سعر عادل للكهرباء المنتجة عبر مولّدات الأحياء ليس هو الحق الذي ينشده المواطنون، فحقهم على الدولة أن تؤمن هي الكهرباء، بدل أن تكتشف بعد عشرات السنين من انتشار المولدات غير القانونية أن هذا القطاع بحاجة إلى تنظيم، فتتدخل لتنظيمه، منتجة بتدخلها أكلافاً فورية سيدفعها المواطنون، وتعويضات مالية مسبقة لأصحاب المولدات، بعشرات ملايين الدولارات!
 

في عام 2018، تفاخر السلطة بتنظيم قطاع المولدات، الذي يفترض أن يكون قد انقرض منذ سنوات، لو نُفّذت الوعود المتكررة بكهرباء 24 / 24. ليست وزارة الاقتصاد هي المسؤولة عن هذا العجز المشبوه، لكنها وُضعت في الواجهة لتوحي بأن الدولة حريصة على الناس وعلى تخفيف الأعباء عنهم، فكانت الرسالة الفعلية إعلان الفشل في تأمين أي من مستلزمات المواطنين، وأولها الماء والكهرباء. حماسة العاملين في وزارة الاقتصاد لن تغطي على نظام متهالك يبحث عن إنجازات زائفة هنا وهناك، كي يداري سقوطه.
ولأنه لا إنجازات تقدم للناس، كان قرار تركيب العدادات لدى المشتركين في المولّدات الموزّعة في الأحياء هو الإنجاز. أصرّت وزارة الاقتصاد عليه بوصفه واحداً من واجباتها «لحماية المستهلكين ورفع مستوى الخدمات المقدمة لهم»، ودعمتها وزارات عدة، أولاها وزارة الداخلية، فكان التأكيد وما زال: قرار وزير الاقتصاد نهائي ولا مجال لعدم تنفيذه، وبالتالي فإن «على أصحاب المولدات تركيب العدادات ونقطة على السطر».
سريعاً تبين أن النقطة لم تنه النقاش، وأن أصحاب المولدات الذين راكموا الأموال على مرّ السنين، مستغلين غياب الدولة، ليسوا سوى انعكاس لهذا النظام. هم أقوياء. ولأنهم كذلك، يمكن القول إن وزير الاقتصاد رائد خوري تسرّع عندما أعلن أنه «لا مزيد من المفاوضات مع أصحاب المولدات»، فالمفاوضات لا تزال مستمرة وتطال السعر والتكاليف، ويُضاف إليها وعود بإلغاء محاضر الضبط بحق بعض المخالفين، في حال التزموا بقرارات الوزارة (يملك وزير الاقتصاد صلاحية إجراء التحقيق الإضافي، الذي يسمح بإلغاء العقوبة في حال عاد المخالف عن مخالفته). مع ذلك، كان يمكن وصف ما يحصل منذ الأول من تشرين الأول، تاريخ بدء سريان قرار وزير الاقتصاد، بالإيجابي، لأن أصحاب المولدات، في أغلبهم، اقتنعوا بأن لا بديل من تنفيذ القرار. لكن هذا التنفيذ سيتم بشروط أصحاب المولدات التي وافقت الوزارة على معظمها.
ترفض مصادر مسؤولة في الوزارة اتهامها بالتراجع. تعيد التأكيد أن قرار تركيب العدادات لا رجعة عنه، لكنها في المقابل تشير إلى أنه لا يمكنها أن تصرّ على رفض «المطالب المحقة أو المنطقية. لكن ما يمكن فعله وفعلته هو وضع ضوابط لهذه المطالب»، كمطالبة أصحاب المولدات للمشتركين بدفع «مبلغ تأمين» لضمان «حقهم» (أصحاب المولدات) في حال تخلف المشترك عن الدفع. وبعد «تطوّعها» لتنظيم قطاع المولدات العشوائي، انتقلت الوزارة إلى تنظيم بند «مبلغ التأمين» العشوائي بدوره. فأصحاب المولدات بدأوا بفرض المبلغ على المشتركين، فاختلفت قيمته من منطقة إلى أخرى، من دون أن يقل عن 100 دولار عن كل 5 أمبير. ولأجل ذلك، ما كان من الوزارة سوى أن تتدخل، عبر القرار الذي أصدره خوري، أمس، لتحديد قيمة «التأمين» بـ100 ألف ليرة عن أول 5 أمبير، على أن يُضاف 75 ألف ليرة عن كل 5 أمبير إضافية. يعني ذلك أنه بات على كل أسرة أو مؤسسة دفع مبلغ 100 ألف ليرة لصاحب المولد، كـ«تأمين لضمان حق» الأخير!
لكن قبل الضبط، لماذا التأمين في الأساس؟ ألم يكن المشتركون يدفعون بدل اشتراكهم في نهاية الشهر، أي بعد استهلاك الكمية وتحديد وزارة الطاقة عدد ساعات القطع وثمن كل ساعة تقنين في الشهر الذي سبق؟ تبرر الوزارة بأن الأقلية من أصحاب المولدات كانت تعمد إلى ذلك، فيما كانت الأغلبية الساحقة تضع فاتورة مسبقة في أول الشهر، لكن بناءً على التعرفة المحددة من الوزارة عن الشهر الذي سبق، وهكذا دواليك. ولأن ذلك لن يكون متاحاً بعد تركيب العدادات (التعرفة تحدد على أساس الاستهلاك)، كان لا بد من التأمين، ربطاً بإحصاءات تشير إلى أن عدد الذين يلغون اشتراكهم شهرياً ليس بسيطاً، ما يزيد من مخاطر عدم الدفع! هكذا تحوّلت الوزارة من ساعية إلى ضمان «حقوق المستهلكين»، إلى حريصة على حقوق أصحاب المولدات، ومبشِّرة بضرورة حمايتها من «تعديات» المستهلكين الذين كان يجب على الدولة أن تؤمن لهم الكهرباء 24/24، وتعفيهم بالتالي من ذل اللجوء إلى المولدات وكلفته العالية.
أما بشأن التمديدات التي حدد بعض أصحاب المولدات سعرها بنحو 115 ألف ليرة، فقد خفّضتها الوزارة في قرارها الملزم إلى 50 ألف ليرة بالحد الأقصى، «بعد إبراز كافة الفواتير اللازمة التي يجب أن تكون من المصدر وليس من صاحب المولد». وهذا المبلغ مرتبط بضرورة نقل علب الكهرباء المثبّتة على أعمدة الكهرباء، على سبيل المثال، إلى مداخل الأبنية. أي إن مبلغ التمديد يفترض أن ينخفض إلى الصفر في حال كانت العلب في مداخل الأبنية، خاصة أن القرار ينص على أن يتحمل صاحب المولّد تكلفة العدادات (يمكن للمشترك أن يشتريها على نفقته على أن يحسم بالتقسيط من فاتورة المولد).
ما تقدّم يعني كلفة يجب على الأسر وأصحاب المؤسسات الصغيرة دفعها، فوراً. السعي إلى خفض كلفة الاشتراك أمر محمود بطبيعة الحال. لكن تنفيذه وحده، وبلا خطط واضحة، قد يشكّل عبئاً إضافياً على السكان، وعلى الدولة معاً (ربما يلجأ مشتركون إلى نقل جزء من استهلاك الكهرباء من المولدات إلى «كهرباء الدولة»، ما يعني زيادة كلفة الانتاج في مؤسسة كهرباء لبنان، وتالياً، كلفة الدعم). لكن أخطر ما في نتائج العمل العشوائي لوزارة الاقتصاد هو تضمنه جمع مبلغ بعشرات ملايين الدولارات، ووضعه في جيوب أصحاب المولدات. فبافتراض أن نصف المشتركين في مؤسسة كهرباء لبنان (مليون و400 ألف مشترك) مشتركون أيضاً في المولدات، فهذا يعني أن 700 ألف منزل ومنشأة سيكون كل منهم مضطراً إلى دفع مبلغ 100 ألف ليرة على الأقل، ما يعني أن 70 مليار ليرة لبنانية (أكثر من 46 مليون دولار أميركي) ستنتقل فوراً إلى جيوب أصحاب المولدات! ورغم أن هذا المبلغ سيُعدّ بمثابة «مبلغ تأمين» مستحَق للمشتركين، إلا انه لا ضمانة باسترداده مستقبلاً، ولم تجد الوزارة نفسها معنية بضمانه، فيما هي قررت إلزام المشتركين بضمان «حقوق أصحاب المولدات»! فضلاً عن أن نقل مبلغ بهذا القدر إلى أصحاب المولدات، سيمكّنهم من استخدامه للحصول على ما يشبه «التعويض المسبق» عن الاستغناء عنهم بعد سنوات، في حال تمكّنت الدولة من تأمين إنتاج مستقر للكهرباء يغطي كل الأراضي اللبنانية، 24 ساعة يومياً.


قبل ذلك، تمثلت الخطوة الأولى التي خطتها الدولة إلى الوراء متراجعة أمام أصحاب المولدات، برفع سعر الكيلو واط. مع تنفيذ القرار لم يعد السعر بين 300 ليرة و350 ليرة، بل قفز إلى ما بين 410 ليرات و450 ليرة. صحيح أن أصحاب المولدات كانوا يطالبون بأن يكون السعر 600 ليرة، مع استعدادهم للوصول إلى اتفاق وسطي يقضي بأن يكون سعر الكيلوواط 500 ليرة، إلا أن السعر الذي أقرّ لم يختلف كثيراً عن مطلب أصحاب المولدات، أضف إلى أن الوزير كان وعد في الاجتماع الذي عقد الأسبوع الماضي، أن «التسعيرة التي تصدر عن وزارة الطاقة شهرياً ستجرى لها دراسة جديدة»، ما يعني إمكانية رفعها أكثر. وهو ما أكدته مصادر الوزارة، مع تقليلها من أهميته، إذ أشارت المصادر إلى أنه حتى لو وصلت التعرفة إلى 500 ليرة (تحددها وزارة الطاقة)، فإن تكلفة الـ5 أمبير، على افتراض استعمالها كاملة، ستعني دفع فاتورة تعادل 100 ألف ليرة!
في هذا القطاع، يلعب الوزير رائد خوري الدور الذي يهواه: «الناظم» بين القطاع الخاص الهادف إلى تضخيم أرباحه، والمواطنين المضطرين إلى اللجوء إلى هذا القطاع، لأن «الدولة» قررت ألا تقوم بواجبها الاول، وهو تأمين الخدمات للسكان. وبدلاً من ذلك، تقف إلى جانب القطاع الخاص، ولو كان غير قانوني، منتحلة صفة الحريص على حقوق المواطنين، لينتهي تدخّلها بالخضوع لابتزاز «أصحاب الأموال»، تحت عنوان خفض الكلفة على المستهلكين، لكن بتحميل الأسر نفقات فورية كانت في غنى عنها.