في هذا السياق بالذات، كانت إطلالات الحريري الإعلامية الأخيرة. يلتزم المسافة الفاصلة عن خط أحمر يحول دون وقوفه على منبر المواجهة مع الرئيس عون، وبالتالي هو محكوم بمنطق الإيجابية ولو المصطنعة. إذ لا خيار أمامه سوى تفاؤل مفتعَل يبعده من الصدام. لكن الحريري يدرك في الوقت عينه أنّ التسهيلات التي قدّمها في حكومته الأولى في العهد العوني، أكل الدهر عليها وشرب. لذا، لا بدّ من مقاربة جديدة، لا تجد حتى الآن آذاناً صاغية.
يقول أحد المطّلعين على مواقف رئيس الحكومة إنّ تصوير الخلاف الحكومي على أنّه أكمل دورة نضوجه وبات على أمتار قليلة من خط النهاية، وانّ لمسات بسيطة تنقص الحكومة الجديدة، مُبالغ فيه جداً.
صحيح أنّ الحريري حاول التقليل من أهمية العراقيل التي تحول دون انتقاله إلى السراي الحكومي كرئيس حكومة «كامل الصلاحية»، لكنه يعرف تمام المعرفة أنّ المشوار لا يزال طويلاً وبعيداً، وكل الأطراف بحاجة لتبادل التنازلات لجعل مهمة التأليف ممكنة.
ويضيف هؤلاء أنّ الرجل بنى تفاؤله على معطيات قد تذلّل العقبات، لعل أهمّها تلميح رئيس الجمهورية خلال لقائهما الأخير، إلى إمكانية تجيير موقع نيابة رئاسة الحكومة إلى «القوات» من جديد ولكن ضمن لوحة حكوميّة متكاملة تُقنع رئيس الجمهورية. على هذا الأساس، منح الحريري نفسه هامشاً تفاؤلياً قد يساعد على دفع بقية الأطراف إلى خفض سقوفها وتليين مواقفها... لعل وعسى!
لكنّه في مطلق الاحوال لم يتوقع أن يأتيه الردّ صاعقاً من رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، مطيحاً بالآمال التي يحاول الحريري البناء عليها، وبَدت في لحظة «التفجير البرتقالية»، تلك الآمال قصور رمال سرعان ما سقطت بالضربة القاضية.
ولكن، بالنسبة للمطلعين على موقف الحريري، لا يزال المشهد معقّداً. يقولون إنّ عقداً كثيرة لا تزال «حيّة ترزق» على رغم الإيحاء بأنها ماتت. وبالتالي، إنّ فتح الباب أمام صياغة تسوية مع «القوات» على أساس منحها موقع نيابة رئاسة الحكومة، لا يكفي لتجهيز البزّات البيضاء لالتقاط الصورة التذكارية.
يضيفون أنّه لن يكون سهلاً على رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الانحناء أمام عاصفة العهد، تحت شعار احترام التعددية الدرزية، واقتطاع مقعد درزي من الثلاثية التي يعتبرها من حق حزبه بعد حملة الردود التي خاضها بالصوت والصورة.
وبالتالي، فإنّ سجّادة التسوية التي أعربَ الرجل عن استعداده لحياكتها، لا تعني أبداً أنّ الطريق باتت معبّدة، ولا تعني أبداً قبوله بمبدأ المقايضة بوزير مسيحي، بلا إعطاء رأيه بالوزير الدرزي الثالث. فالتراجع بالنسبة لـ بَيك المختارة مكلف جداً على رغم الهامش الذي تتيحه زعامته.
كذلك الأمر بالنسبة لحقيبة وزراة الصحة. صحيح أنّ الحريري لم يعترض على تولّي وزير من «حزب الله» الحقيبة، لكنه حذّر من وقف المساعدات وبرتوكولات التعاون مع الدول والمنظّمات الدولية، ما يعني أنّ الإشكالية لا تزال قائمة.
كما أنّ حقيبة الأشغال العامة لا تزال موضع تجاذب قوي في ضوء الحملات التي يشنّها «التيار الوطني الحر» ضدّ كل ما له صِلة بمطار رفيق الحريري الدولي، ما يعني أنّ رئيسه جبران باسيل مستمر في مسعاه لضمّ هذه الحقيبة أيضاً إلى حصّته.
يقول هؤلاء إنّ هذه الاشكاليات هي مؤشرات كافية ليُستدلّ منها على أنّ الأزمة أبعد من خلاف على مقعد من هنا أو حقيبة من هناك. في رأيهم، يلعب الجميع على الحافة ويقتربون من الهاوية شيئاً فشيئاً من دون أن يبادروا إلى تبادل التنازلات التي فرضتها التطورات السياسية.
ويضيفون: إنّ تبدّل ظروف التسوية الرئاسية التي بَدت أشبه بـ»تهريبة سياسية» أفضَت إلى انتخاب الجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية، هو الذي أنتج المعايير السياسية للتأليف. فهاجس «الرئاسة القوية» يحول دون إقدام رئيس الجمهورية على أي تنازل جديّ، فيما هاجس الدفاع عن مقتضيات «الطائف» يمنع رئيس الحكومة عن تقديم مزيد من الخطوات إلى الأمام، أمّا الثنائي الشيعي فيحاول الحفاظ على ما كسبه في الانتخابات النيابية.
ولذا، يعتقدون أنّ الخلاف السياسي حول استراتيجة لبنان الخارجية هو العائق غير المرئي الذي يؤجّل التأليف ويعلّق الأسباب على شمّاعة الخلافات على الحقائب. لكنّ الأزمة أبعد وأعمق من ذلك، وما التصعيد الأخير الّا صورة منقّحة عن مشهد عودة المشاورات إلى مربّعها الأول.