في لقائهما الاخير، الاربعاء المنصرم، من غير ان يحمل الرئيس المكلف سعد الحريري الى قصر بعبدا عناصر جدّية وليس جديدة فحسب، للخروج من المأزق الحكومي، اخطره رئيس الجمهورية ميشال عون انه سيكون في الايام التالية في القمة الفرنكوفونية في ارمينيا، وهو يأمل ــــ عندما يعود ـــــ في ان تكون اتضحت تماماً مسودة الحريري، على ان يلتقيا على الاثر. تضمنت هذه الاشارة تلميحاً الى ان توجيهه رسالة الى مجلس النواب، عملاً بما تنيطه به الفقرة 10 من المادة 53، لا يزال احتمالاً واقعياً. اذذاك يضع الازمة الحكومية بين ايدي البرلمان اياً يكن قراره.
 

يحيل ذلك تأليف الحكومة الآن الى ما تحت الصفر بقليل.
على ان ارتفاع نبرة التصعيد بين التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية جعلهما في صدارة المواجهة على انهما يمسكان بالحل والربط، مع ان العقدة الدرزية ليست اقل شأناً. الا ان وليد جنبلاط يتصرّف على انه أعقلهما. يصرّ على المقاعد الدرزية الثلاثة، ويبدي في الوقت نفسه انفتاحاً على تسوية ما. يتلطى وراء العقدة المسيحية كأنها الاصل في مأزق الحكومة.

 

عشرة ايام هي مهلة عون للحريري انجاز مسودة جديدة(مروان طحطح)


افضى التصلّب المتبادل بين الحزبين المسيحيين الى دفع التكليف في منحى مغاير تماماً، هو ما راح يتردّد في الايام الاخيرة، بالاكثار من الكلام عن «تعويم» حكومة تصريف الاعمال، ما يتيح لها استعادة اجتماعاتها في مجلس الوزراء ونشاطات وزرائها خارجه، كما لو انها لم تعد مستقيلة. الاكثر حماسة في الدفع في هذا المنحى، علناً، هو حزب القوات اللبنانية. في المقابل يتصرّف الحريري كما لو انه يفضّل ان يكون رئيس حكومة معوّمة، منه رئيساً مكلفاً تأليف حكومة يتعذّر تأليفها.
بعض الحجج المساقة الى تعويم الحكومة، ان لها ان تفعل ما سبقها اليه مجلس النواب، وهو «تشريع الضرورة»، فتعمد هي الى «تشريع» استعادتها دورها على نطاق اوسع بكثير مما يجيزه لها تصريف الاعمال. يحلو للحريري ايضاً ان يعاود نشاطه من السرايا لا من بيت الوسط.
لا سابقة منذ اتفاق الطائف في تعويم حكومة مستقيلة. وهو حتماً يحظّر حلاً ملتوياً كهذا.
آخر تعويم حكومي خبره لبنان، في مرحلة ما قبل اتفاق الطائف، كان مع الحكومة الاولى للرئيس سليم الحص في عهد الرئيس الياس سركيس. تألفت في 9 كانون الاول 1976. الا ان رئيسها استقال في 19 نيسان 1978 بعد انهيار الوضع الامني في البلاد. اعاد سركيس في 28 نيسان تكليفه، الا انه اخفق في تأليف حكومة جديدة بسبب التناحر على التمثيل فيها بين افرقاء نزاعات ذلك الزمان، الجبهة اللبنانية والحركة الوطنية والزعماء التقليديين في طوائفهم. انتهى الامر بعد 26 يوماً الى تعويمها. آنذاك اعتمدت آلية مبتكرة لتبرير التعويم: بتفاهم متفق عليه كمخرج من المشكلة، ابلغ الحص الى سركيس اعتذاره عن عدم تأليف الحكومة الجديدة، فسحب الرئيس منه التكليف، وتراجع عن قبول الاستقالة، فاستعادت الحكومة المستقيلة دورها وشرعيتها كأن شيئاً لم يحدث، واستمرت حتى 16 تموز 1979.
ثمة سابقة قريبة من تلك، في حقبة ما قبل اتفاق الطائف، الا ان احداً لم يكن في وسعه حمل وزر تعويم يتعذر جعله شرعياً ودستورياً الا تحت وطأة فرض امر واقع. في الاول من حزيران 1987 اغتيل الرئيس رشيد كرامي بعدما كان استقال لاقل من شهر خلا في 4 ايار. للفور إعتبرت الحكومة ساقطة بوفاة رئيسها. لم يكن في وسع الرئيس امين الجميّل تأليف حكومة جديدة تخلفها، في ذروة المواجهة بينه ودمشق وحلفائها. انتهى الامر بحل مبتكر من داخلها لم يتكرّر مذذاك، قضى بأن يخلف السنّي الثاني في الحكومة المستقيلة، الرئيس سليم الحص، رئيسها الراحل وترؤسها وتعيينه وزيراً للخارجية بالوكالة في الحقيبة التي كانت لكرامي، على ان يصير الى توليه تصريف الاعمال الى حين تأليف حكومة جديدة. اصدر الجميّل مرسوم تعويمها بموافقة الزعماء المسلمين واغضاب دمشق، فكانت السابقة. استمرت حكومة 1987 الى عام 1989 عندما اضحى الحص رئيس اولى حكومات ما بعد الاعلان عن اتفاق الطائف.
عندما وُضِع اتفاق الطائف رسم حدوداً دون هرطقة التعويم:
اولها، اعتباره الحكومة مستقيلة عند وفاة رئيسها تبعاً لما نصت عليه المادة 69، تفادياً لاستعادة ما حدث عام 1987.
ثانيها، لم يعد رئيس الجمهورية مرجعية تسمية الرئيس المكلف تأليف الحكومة، بل مجلس النواب عملاً بالمادة 53 التي تدعوه الى اجراء استشارات نيابية ملزمة بنتائجها، يتولى من ثم ابلاغ الشخصية المعنية تكليفها ترؤس الحكومة بعد اطلاع رئيس مجلس النواب على النتائج تلك. بذلك ليس رئيس الجمهورية مَن يمنح التكليف، ولا هو مَن يسحبه. ليس للرئيس المكلف عندما تتعثر مهمته سوى ان يعتذر عن عدم التأليف، لا ان يتراجع عن استقالة حكومته السابقة، ولا حتماً ان يتصرّف كما لو الاستشارات النيابية لم تقع.


ثالثها، ما لم يرد في الدستور السابق، اتى دستور الطائف على تكريسه في الفقرة 2 من المادة 64 بتحدثه عن تصريف اعمال بالمعنى الضيّق للحكومة المستقيلة. في مرحلة ما قبل اتفاق الطائف كان رئيس الجمهورية يدعو الحكومة الى تصريف الاعمال موقتاً الى حين تأليف حكومة جديدة، من غير ان يستند الى نص دستوري، بل الى اجتهادات قضائية ادارية. اتى تصريف الاعمال، وايراده للمرة الاولى في متن الدستور، كي يحسم الاستقالة ويعتبرها نافذة ما ان يصدر رئيس الجمهورية بياناً يطلب منها تصريف الاعمال الذي ينطوي على قبوله استقالة الحكومة.
رابعها، ليس لرئيس الجمهورية، ولا للرئيس المكلف اذ يقرّر التراجع عن استقالته من اجل تعويم حكومته، تجاوز الآلية الدستورية التي جزمت بقبول استقالته ما ان يدلي بها، ويدعو رئيس الجمهورية الى اجراء استشارات نيابية ملزمة. في حال كهذه تمسي المبادرة بين يدي مجلس النواب الذي يسمّي الرئيس المكلف. لا يسعه ان يفعل الا بعد الاستشارات النيابية الملزمة التي يجريها رئيس الجمهورية ويحصي اصوات المرشح الحائز اعلى نسبة منها. لا يجري ذلك كله الا بعد تسلّم رئيس الدولة الاستقالة الخطية وفقاً للاصول.
خامسها، لم يعطِ الدستور الحكومة المستقيلة ما اعطاه الى مجلس النواب في الفقرة 3 في المادة 69 بأن دعاه الى عقد استثنائي حتى تأليف الحكومة الجديدة ونيل الثقة. تحت هذا الباب ادخل رئيس مجلس النواب نبيه برّي «تشريع الضرورة». في المقابل اعطى الدستور الحكومة المستقيلة صلاحية تصريف الاعمال في وقت منع على المجلس، عند انتهاء ولايته، الالتئام او او ممارسة اي نشاط موقت الى حين انتخاب برلمان جديد يخلفه.