في فرنسا الشعراء لا يموتون.
هذا ما قاله أمس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الجنازة الوطنية التي أقامتها الدولة الفرنسية للمغنّي وكاتب الأغاني شارل أزنافور.
لم أستطع إلاّ أن أجد نفسي متورّطاً في هذه المسألة، ومعنياً بها، علماً أني لستُ من المشغوفين استثنائياً بأزنافور.
ما يعنيني، هو موقف الدولة "الأخلاقي" من قضية الشعر والشعراء، والفن والفنانين، والثقافة والمثقفين.
ترى، كم كانت فرنسا لتفقد الكثير الكثير من مهابتها ومن مكانتها في عالم القيم، في الإنسانيات، في العقل، في الروح، في الثقافة، وفي معنى الوجود نفسه، لولا الشعر.
أنا القارئ، الكاتب، المنصت، المتأمل، الشاعر، والأستاذ الجامعي، يمكنني أن أعرف تماماً "الموضع" الذي تحتلّه فرنسا في علياء العالم، بسبب الشعر، بسبب الشعر الفرنسي وبسبب الشعراء الفرنسيين.
أنحني بتهيّب، أمام هذه العلياء، أمام العلياء التي تصنعها "الشعرية الفرنسية" لفرنسا، وللعالم كلّه، وللبشرية جمعاء، ولي شخصياً، "أنا العبد الفقير".
هذا التهيّب، شعرتُ به أمس خصوصاً في تأبين الرئيس الفرنسي لشارل أزنافور هذا.
لا بدّ أن تكون عظام شارل بودلير، وأرتور رامبو، وفيكتور هوغو، تصفّق، وتزغرد، وتنتشي، وتتخذ لها أرواحاً وأجساماً تحلّق فوق الوجود البشري كلّه، من جرّاء هذا الاحترام العظيم والجليل الذي تبديه الجمهورية الفرنسية لشعرائها، صانعي عظمة الأمة الفرنسية.
تذكرتُ صلاح لبكي، الشاعر اللبناني صلاح لبكي، ليس لأنه شاعر عظيم فحسب، بل لأنه أيضاً وضع كتاباً يحمل عنواناً استثنائياً، "لبنان الشاعر".
قلتُ في نفسي، وأنا أنصت إلى خطاب ماكرون (الرئيس الفرنسي)، أين هو، يا ترى "لبنان الشاعر" في عيون حكّامه ورؤسائه، تاركاً – على سبيل الاحتياط - فسحةً صغيرة لمَن ساهم من هؤلاء (في ما مضى طبعاً) في إعلاء القيمة الشعرية للبنان، الذي بات يتنكّر للشعر، للشعراء، وللشعرية مطلقاً، والذي بات من جرّاء هذا التنكر، جمهوريةً لا تليق بها حتى تسمية "جمهورية الموز".
لا أتذكّر صلاح لبكي فحسب، بل أتذكر أيضاً عاصي رحباني، الذي أعطى لبنان (على ما أزعم وأعتقد) أكثر مما أعطاه أزنافور لفرنسا.
هل يجب أن أستدعي الأخطل الصغير، أمين نخلة، الياس أبو شبكة، عبدالله العلايلي...؟
هل يجب أن أستدعي أنسي الحاج؟
هل يجب أن أستدعي وديع الصافي؟
لا بدّ أن أقول بصوتٍ جهير، ومُدوٍّ، إني شعرتُ شخصياً بـ"الثأر"، وأنا أنصت إلى الرئيس الفرنسي؛ الثأر من أحوال الشعراء في بلادي، الذين "يموتون" في بلادي، وليس ثمة رئيس عندنا يقبّل يد شاعر، أو جبينه، أو كتاباً من كتبه، أو... يزور ضريحه.
أعرف تماماً أن المسألة هي مسألة "أخلاقية"، "تربوية"، "قيمية".
بل هي مسألة "ثقافية".
على هامش هذا المقال، أعود لأذكّر الجماعة السياسية التي تتنكر لمعنى لبنان، أن تنكّرهم هذا، معروفةٌ أسبابه.
هم ليسوا من جماعة "لبنان الشاعر".
لا هذا اللبنان، يستحقّ هذه المعاملة.
ولا هم يستحقّون هذا اللبنان.
أقول هذا وأنا أشعر بالهول العظيم، لأن الشعراء الذين لا يموتون في فرنسا، يموتون هنا – يا للخجل - في مقبرة لبنان!