أين يقع ذلك الشأن إذا كان موجودا على أرض الواقع؟
ما هو مؤكد أن هناك ملفا عراقيا في واشنطن وطهران، عاصمتيْ البلدين اللذين يديران العراق معا، من غير أن يرتطم أحدهما بالآخر بالرغم من أن عداءهما يسمح بأكثر من ذلك. وهو ما يشكل واحدة من معجزات العراق الجديد الذي لا تزال عجينته تُشوى على نار هادئة.
القوتان المختلفتان على كل شيء إلا في المسألة العراقية التي تحظى باتفاقهما، لا تنظران إلى العراق من جهة كونه دولة مستقلة ذات سيادة، يعيش فيها شعب له تاريخ عميق في العيش المشترك، ويملك في ماضيه القريب مبادرات ومحاولات جادة عبّر من خلالها عن رغبته في بناء دولة حديثة تقوم على أساس نظام سياسي قوي، ونوع مبسط من العدالة الاجتماعية التي تم تجسيدها عن طريق التعليم والأنظمة الصحية والقطاعين الزراعي والصناعي والنقل والمواصلات وبنية تحتية متينة في ظل شعور مطلق بالأمن.
إنهما لا تلتفتان إلى ذلك العراق الذي مضى في سبيله بعد أن طوى الاحتلال الأميركي صفحة دولته التي أُثقلت بالحروب بكل ما حملته من هزائم عسكرية وخسائر اقتصادية وانقراض لمقومات وعناصر البنية التحتية. لقد كان جليا أن المطلوب منذ عام 2003 أن يُجرّدَ العراق من ملامحه ليلتحق بركب الدول الفاشلة التي ليس لها طعم أو لون أو رائحة. عراق بلا صفات، تؤهله لدخول العصر الحديث. سيكون عليه أن يعيش زمنه الخاص الذي يُفرض عليه بقوة الشركات الأمنية الأميركية والميليشيات الإيرانية والوكلاء المحليين الذين فُتحت أمامهم الطريق للجلوس على كراسي السلطة، من غير أن يُلزموا بتوقيتات للمغادرة أو بواجبات الوظيفة على الأقل.
لا يزال مجلس الحكم الذي أسسه الحاكم المدني لسلطة الاحتلال بول بريمر عام 2003 يحكم في العراق. اختفى عدد من أعضائه بحكم الموت، غير أن وجوه الأحياء لا تزال تشكل حبات السبحة التي تلعب بها أصابع العدوين اللدودين، الولايات المتحدة وإيران. أكثر من خمس عشرة سنة ولم تحدث إلا تغيرات طفيفة في مشهد السلالة الحاكمة. أربع دورات انتخابية مرت مثل غيوم متخيلة، لم تُسقط مطرها، غير أن آثار الفيضانات التي أحدثتها تلك الأمطار كانت مدمرة.
لقد حلم الشعب من خلال إقباله على عمليات الاقتراع بالتغيير، ولكنه في كل مرة كان يصطدم بالتعيين القائم على تسوية أميركية – إيرانية مريبة، لا ترى في الشعب العراقي شيئا يستحق أن يُرى.
حكام العراق، بالرغم مما ينالون من غنائم مالية هائلة عن طريق الفساد، هم مجرد واجهات لمشروع إيراني – أميركي. من خلال تلك الواجهات أنجز العراقيون التابعون فصولا من الخراب ما كان في إمكان الولايات المتحدة وهي دولة الاحتلال أن تنجزها. انتهى عصر نوري المالكي الأسود بملايين النازحين والمهجرين الذين كانوا ضحايا حرب أهلية قُتل فيها الآلاف وبظهور داعش بعد هزيمة الجيش العراقي المخزية.
أما عصر حيدر العبادي فقد شهد تدمير واحدة من أعظم مدن العراق وهي الموصل وإبادة الآلاف من سكانها وظهور الحشد الشعبي التابع لإيران.
وها نحن اليوم نقبل على عصر عادل عبدالمهدي الذي يخبئ، بالتأكيد، كارثة عظمى ستصيب العراقيين في مقتل، كون بلادهم صارت في مرمى النيران الأميركية بعد أن جرى تسليمها إلى إيران.
من كل هذا يبدو واضحا أن العراق هو مجرد كرة يتداولها لاعبان، استسلما لشعورها بلذة إذلال الشعب العراقي وإهانته وخذلانه وسحق قيمه وشرذمة خبراته ووضعه تحت طائلة العقوبات الأبدية والحيلولة دون استعادته لشيء من عافيته. شعب مريض، لا شأن له سوى البحث عن مسكنات مؤقتة لألمه الذي صار واضحا أن لا أحد يعينه على معالجة أسبابه، في ظل قصوره الذاتي بعد أن تم إقحامه في كهف الطائفية المظلم.
الشأن العراقي كذبة يتم تداولها فمصير العراق كله لم يعد شأنا عراقيا.