كانت النخبة العراقيّة من النخب المشرقيّة التي بكّرت نسبيّاً في إدراك ما تأخّرت عنه النخبة السوريّة: أنّ هناك قضيّة وطنيّة وديموقراطيّة للعراقيّين، وأنّ هذه القضيّة ليست إسلاميّة ولا عروبيّة ولا فلسطينيّة. في هذه القضايا الأخيرة كانت تصبّ الجهود في الوقت الضائع، أو المعلّق، أي قبل اكتشاف القضيّة العراقيّة وخصوصيّتها.
لصدّام حسين «فضل» مزدوج في ذلك: من جهة، بالغ في استخدام العروبة وفلسطين والإسلام، وخاض حروباً شديدة الكلفة باسمها. لكنّه بالغ أيضاً في قهر العراقيّين وتنفيرهم من هذا الوعي الزائف الذي نفاهم فيه. من جهة أخرى، سقط قبل زملائه الباقين، فأتاح للعراق أن يظهر على حقيقته، إن بوصفه وطناً أو بوصفه جماعات متناحرة تعيق الوطن.
بالطبع هناك من بقي طويلاً يعارض صدّام باسم عروبة أخرى وإسلام آخر، وبدرجة أقلّ فلسطين من طراز مختلف. وكان النظامان الخمينيّ «الإسلاميّ» والأسديّ «العروبيّ» مصدراً فاعلاً في استئناف الخديعة التي تؤجّل الوعي الوطنيّ العراقيّ. ما عزّز إغراء هذين النظامين على المعارضين العراقيّين أنّهم منفيّو نفي بلديهما، وأنّ معارضة صدّام غالباً ما اصطبغت بالتمزّق الأهليّ السنّيّ– الشيعيّ والعربيّ– الكرديّ، حتّى حين كانت تُحوّر تعبيرها عنه وتُموّهه.
عادل عبد المهدي، الذي سيشكّل الحكومة الجديدة في بغداد، يختصر هذه العمليّة المديدة من نفي الوعي ومن الردّ على الواقع الوطنيّ بإنكاره الأيديولوجيّ: في شبابه كان رفيقاً بعثيّاً، مثله مثل صدّام حسين، يستهويهما تذويب بلدهما العراق في كلّ عربيّ أكبر ترسمه الغيوم والضباب. حاكميّة العراق وديموقراطيّته ورفاه شعبه لم تكن هموماً: وحدة العرب هي ما يتكفّل بذلك. في مرحلة تالية، وعلى جناحي القوميّة والشعبويّة، صار عادل رفيقاً ماويّاً في «الحزب الشيوعيّ- القيادة المركزيّة»، الذي خاض «انتفاضة الأهوار» في أواخر الستينات، ساعياً إلى الالتحاق بنماذج «حرب الشعب» في كوبا وفيتنام. في طور لاحق، في بيروت، عاش الرفيق عادل في أجواء المقاومة الفلسطينيّة، وحركة «فتح» تحديداً، إلى أن نشبت الثورة الإيرانيّة في 1979 فبدأ تحوّل «الرفيق» إلى «أخ»، وللماويّة و «فتح» قدرة هائلة على تحويل الرفاق إلى أخوة. وما إن تمّت له الأخوّة حتّى وجد نفسه في «المجلس الأعلى للثورة الإسلاميّة»، وهو الحزب الدينيّ والعائليّ الذي تأسّس في طهران نفسها. لقد ضمّ «المجلس الأعلى» منفيّين يعانون في إيران تمييزاً سببه أنّهم عرب، بعدما عانوا في العراق تمييزاً أشرس بوصفهم شيعة.
وهي على العموم تغريبة تصحّ في جيلين على الأقلّ من «المضروبين بسيرةٍ» أوّل أبطالها الزير سالم، وآخرهم مَن لا يعلم بهم إلاّ الله. في السيرة هذه اتّهامات كثيرة بالعمالة والخيانة، مصحوبة بدم أكثر. أمّا أن ينتهي ترحال الرفيق– الأخ عند محطّة الفرد– المواطن، وينتهي معه أدب التشهير المقرون بالجريمة، فهذا ممّا سيُسأل عنه عادل عبد المهدي وقد صار رئيس حكومة: هل بات هو نفسه يريد ذلك؟ وهل إذا أراد سيسمح به ذاك التضامن الوثيق بين التفتّت الداخليّ للعراق والتدخّل الخارجيّ فيه؟