ما فاجأني كلام وزير خارجية مملكة البحرين في نيويورك بشأن سوريا والوضع السوري. فالمتابعون يعرفون أنّ لدى البحرين موقفاً خاصاً من النظام السوري، ما تغيَّر عبر سنوات الحرب؛ لكنه كان يعلو أو ينخفض في اللهجة وليس في الأساس. إنما في الظروف الأخيرة، يبشّر أنصار النظام في لبنان، والعائدون من دمشق، بعضهم بعضاً، بأنّ وضعاً جديداً يوشك أن يتبلور بعودة النظام للتأهُّل في الجامعة العربية. والمسألة الآن ليست الموقف البحريني القديم - الجديد؛ بل بالفعل: كيف يفكر العرب بشأن سوريا في المستقبل القريب؟
النظام لم يتغير قيد أنملة، وليس لجهة إيران المستولية على الأرض بالفعل؛ بل وفي الموقف تجاه شعبه، والموقف لجهة التغيير السياسي المتواضع. سيقول المتواضعون: بل إنّ وزير الخارجية السوري قال في الأمم المتحدة، إنهم مستعدون لاستقبال الجمهور السوري النازح أو اللاجئ في لبنان وربما في الأردن. المنظمات الدولية لا تزال تقول: إنّ النظام والوضع معاً لا يسمحان بعودة الذين غادروا. ونحن نعلم أنّ الإدارة اللبنانية و«حزب الله» معاً فتحا مكاتب لمن يريد العودة طوعاً. وما أقبل عليها غير مئاتٍ قليلة حتى الآن. فريق جبران باسيل وزير الخارجية اللبناني يذهب إلى أنّ هؤلاء لا يريدون العودة؛ لأنهم يعملون في لبنان، وهو يُغريهم بأن سوريا مقبلة على إعادة الإعمار، وهناك شركات لبنانية ذهبت إلى هناك من أجل العقود والعمل، فلماذا يتردد المواطنون في العودة إلى بلادهم؟! الذين تحدثنا إليهم لا يذكرون الأسباب الأمنية فقط؛ بل يشيرون بالدرجة الأولى إلى أنّ هناك مناطق فيما بين ضواحي دمشق والقلمون وحمص وحلب، ما عاد لأهلها مكانٌ فيها؛ بل يسكن فيها أو يحتلُّها غيرهم!
لقد ذكرتُ هذه التفاصيل بدءاً بموقف البحرين، لأقول إنّ الوضع في سوريا يحتاج إلى اجتماعٍ عربي ولو سرّي، من جانب الدول ذات قرون الاستشعار الطويلة والاهتمام الفعلي. وأقصد بقرون الاستشعار الطويلة العرب الذين عندهم علاقات تشاورية قائمة ومستمرة مع الأميركيين والروس؛ إذ إنّ هذه المجموعة الاستراتيجية إن توصلت لاتفاقٍ أو إجماع، تستطيع التحرك باتجاه الدوليين، وباتجاه الجامعة العربية بتصورٍ لدورٍ عربي في سوريا. وليس صحيحاً أنّ العرب ما اهتموا بالعراق بعد الغزو الأميركي عام 2003؛ بل أنشأوا آلية «دول جوار العراق» إلى أن أخرجهم بعد عام 2006 - 2007 الاتفاق الأميركي - الإيراني.
ليست إسرائيل هي التي ستُخرج إيران من سوريا ولبنان؛ بل إنّ العرب الاستراتيجيين هم الذين يمكنهم ومن مصلحتهم العمل على ذلك؛ بدلاً من انتظار الاتفاق الروسي - الأميركي.
إنّ الانسداد الآخر الذي ينبغي ألا يحصل، هو في اليمن. فالحوثيون متضايقون جداً، وإلا لما تشابكوا (وليس اشتبكوا!) مع الدوليين من أجل إخراج جرحاهم وقادتهم من طريق عُمان بواسطة غراندي. ولو لم يكونوا يفكرون في المغادرة لما اهتمّ عبد الملك الحوثي الآن بتعيين خليفة له في «الإمامة». وقد قابلتُ عندما كنتُ أُدرّس باليمن بدر الدين الحوثي (والد حسين وعبد الملك)، ومحمد بن عبد العظيم الحوثي، الذي كان خصماً لبدر الدين. بدر الدين المتشدد كان مهتماً وقتها بغزو اليهود، نعم اليهود، وهم مائتا يهودي يمني لا أكثر كانت السلطات تحميهم في مواطنهم البائسة، وكان بدر الدين ساخطاً عليهم لأنهم «خالفوا عقد الذمة»! أما محمد بن عبد العظيم فكان من أنصار مجد الدين المؤيَّدي الذي كان يعتبره أكبر مجتهدي الزيدية الأحياء، وهما معاً كانا يعتبران بدر الدين إمامياً وليس زيدياً. الآن يريد عبد الملك القضاء على محمد بن عبد العظيم؛ لأنّ شيوخ الزيدية الباقين على المذهب فيما بين ذمار وحجة وصعدة يفكرون فيه. وأظن أنّ عبد الملك يريد أن يعمل مع قريبه البعيد ما عمله هو مع السلفيين بدماج في عامي 2012 و2013، أي القتل أو الإخراج من الديار. والمعروف باليمن الآن أنّ أولاد السلفيين الذين أخرجهم جمال بنعمر وقتها هم عماد ألوية العمالقة المقاتلة بالحديدة اليوم.
لا بد الآن - ولستُ خبيراً عسكرياً - من إخراج الميليشيات من لحج والبيضاء، ومن الحديدة، وتضييق الخناق عليهم في صعدة. وإذا تحررت تعز، وتحررت إبّ خلال الشهور القادمة، فلن تقوم لهؤلاء قائمة.
قال لي عسكري يمني قابلتُهُ في الرياض كان يدرس عندي شاباً عام 1990: «لقد كنتم تحسدوننا نحن يمنيي الشمال؛ لأننا لم نضطر لمقاتلة الاستعمار الغربي، وها نحن مضطرون لتحرير بلادنا شبراً شبراً وبدمٍ كثير». وتابع: «إنّ الغريب أنّ الرئيس علي عبد الله صالح هو الذي كان يقول لنا ذلك في الاجتماعات العسكرية، كان يقول: إن لم تقضوا على تمردهم الآن، فستضطرون لتحرير بلادكم منهم بالشبر!».
ولنمضِ إلى الانسداد الثالث الذي لا ينبغي أن يحصل، وهو الوضع الليبي. فلأنّ الليبيين مثل اليمنيين أرادوا الحصول على إجماعٍ من كل الأطراف المسلَّحة وغير المسلَّحة، ذهبوا إلى تونس والجزائر والصخيرات بالمغرب، وصار الحلُّ دولياً وبمبعوثين دوليين متتالين. والمجلس الرئاسي وإداريوه مدنيون؛ لكنّ المسيطرين على القرار في طرابلس والغرب الليبي مجموعات من الميليشيات المحترفة، تماماً مثل الوضع في لبنان، وإن كان الوضع الأمني عندنا أفضل حتى الآن. فعندنا جيشان، أو جيش وميليشيا، وفي طرابلس وغرب ليبيا بقايا جيش وعشرون ميليشيا. فحتى إيطاليا صار عندها ميليشيا في ليبيا. وقد استغربت لأنّ المبعوث الدولي صديقي المفكر غسان سلامة تحمس للانتخابات بحسب الاقتراح الفرنسي. وربما ظن أن الليبيين (شأنهم في انتخابين سابقين) ستحسم أكثريتهم الأمر لصالح الحكم المدني. إنما من قال لك يا صديقي إنّ الميليشيات ستقبل بالانتخابات أو تعترف بنتائجها؟ وعلى أي حال، فإنّ تحركات المبعوث الدولي الأخيرة وتصريحاته، تشير إلى أنه يتحرر بالتدريج من سحر الانتخابات والأمن التوافقي، ويعيد النظر في المجلس الرئاسي وطريقة عمله. والوضع في شرق ليبيا ليس مثالياً؛ لكنّ الأمن مستتبّ والبرلمان والحكومة يعملان بحدود. وقد أخرج الجيش الإرهابيين من درنة بعد بنغازي. ولستُ أقول بالحلّ العسكري القادم من الشرق؛ لكن الانتخابات لا يمكن أن تجري إلا في ظلّ وضعٍ آمِنٍ وسلطة واحدة. ولا أدري لماذا لا ينتخب الليبيون رئيساً أولاً، فتكون الشرعية بيده، وتجري مساعدته عربياً ودولياً لإجراء انتخاباتٍ حرة.
ما عاد من المفيد استعراض الظروف التي أدت في الدول الثلاث: سوريا وليبيا واليمن، إلى أن يصبح الحلُّ دولياً بحتاً ومن دون دور عربي، لولا استدراك وتدخل التحالف العربي باليمن. وربما عاد ذلك في ليبيا واليمن إلى انقسام الجيش أو ضعفه، وفي سوريا إلى انحيازه الكامل لنظام قاتل وأداة من أدوات إيران. ولستُ أزعم أن الحلَّ الدولي شرٌّ كلّه، لكنْ لنتأمل الوضع في سوريا؛ حيث عجز الدوليون، وجاء الإيرانيون وبعدهم الروس للقتل باسم النظام، دونما قرارٍ دولي من أي نوع! وإلا كم يعترف الروس والإيرانيون بالقرار الدولي رقم 2254؟ ويكون على السوريين الآن أن يحفظوا أسماء أخرى لأماكن غريبة، مثل آستانة وسوتشي وحتى مزارات آل البيت بدمشق وجوارها وبحلب!
لا صلاح للأوضاع العربية من دون مجموعة استراتيجية عربية حازمة وقادرة. ولنتصور ماذا كان قد حدث لليمن لخمسين عاماً قادماً لو بقي اليمنيون في انتظار الدوليين لإنفاذ القرار رقم 2216؟! في اليمن جاء العرب فظهر أفقٌ للخلاص، وهو الأمر الذي ينبغي أن يحصل في سوريا وليبيا.