لم يتوقف بعض أهل الحكم عن التغنّي بإجراء الإنتخابات النيابية الأخيرة على اساس قانون جديد اعتمد النسبية للمرة الأولى، لكنه لم يُشر الى تعطيل جزء من نتائجها المباشرة باعتماد «الصوت التفضيلي» وهو ما أدّى الى اصابة المبدأ بتشوّهات كبيرة في الشكل والمضمون والنتائج التي ترتّبت عليها فاستحقت لقب «النموذج اللبناني من النسبية».
ومن دون الدخول في الآليات والسيناريوهات الإنتخابية التي قاد اليها القانونُ الجديد وأنتجت تفاهمات هجينة ومستغربة شهدت عليها بعض الدوائر الإنتخابية المختلطة لم يكن يتصوّرها أحد، فإنّ كل ذلك كان له ما يبرّره سعياً الى الصوت التفضيلي من دون النظر الى ما كان يمكن أن تتسبّب به موجات إحياء النعرات المذهبية من نزاعات في بعض الدوائر الإنتخابية المختلطة كادت أن تكون قاتلة في بعض الأحيان.
ولم يكتشف بعض اللبنانيين سوءَ ما انتجته الإنتخابات إلّا عند بلوغ مرحلة تأليف الحكومة وفق المنطق النسبي عينه الذي تحكّم بمجرياتها. وقد ظهر ذلك جلياً عند محاولة البعض ترجمة نتائجها في التشكيلة العتيدة فعجزت الماكيناتُ الحسابية عن إنتاج حكومة تترجم الأحجام قبل الوصول الى مرحلة توزيع الحقائب التي صُنّفت بين سيادية وخدماتية وعادية وثانوية وأخرى بلا هوية.
وبناءً على ما تقدّم، وأمام الصور الفسيفسائية التي جرى اعتمادُها لتوزيع الحصص على أساس الكتل النيابية التي اختلط حابلها بنابلها وخصوصاً عندما تمّ تشكيل بعض الكتل الوهمية.
وسعى البعض الآخر الى تحالفات لم يشهدها المجلس النيابي سابقاً لجمع شتات نيابي من مواقع سياسية وحزبية وعائلية متفرّقة لم يجمعها أيّ مصطلح أو برنامج انتخابي قبلاً، وكل ذلك بغية دخول لائحة «الجداول النسبية» سعياً الى مقعد وزاري من هنا أو هناك. ولذلك فقد تحوّلت المعادلات الخاصة بها وجهاتِ نظر لا تراعي العلم ولغة الأرقام في شيء.
وأدّت الى فشل مساعي التأليف بعد مرور أربعة اشهر وعشرة ايام تقريباً على تكليف الرئيس سعد الحريري مهمة التأليف، ولم يتوقف النقاش حول الأحجام قبل توزيع الحقائب والحصص.
وما بين قائل بضرورة العودة الى احتساب النسبية على اساس الأصوات التي نالها كل فريق من مذهبه بالعودة الى «القانون الأورتوذكسي»، أو على اساس الكتل النيابية وقعت المواجهة وانتهت الى فوز الخيار الثاني طالما أنّ النّية عُقدت على تأليف حكومة تمثل ما يشبه «مجلس إدارة» للتركيبة النيابية فحصرت المناقشات الى الآن في طريقة تمثيل الكتل النيابية من دون الخروج عن إطارها، ولكنها لم تُنتج بعد تشكيلة وزارية ترضي مختلف الأطراف الذين عزموا على تقاسم السلطة في ما بينهم.
وامام هذا الوقائع، وبعيداً من وضع الثنائي الشيعي من ضمن هذه المعادلات الحكومية، ثمّة مَن اقترح، لتسهيل فكفكة بعض العقد، اللجوء الى مبدأ النسبية على اساس المذاهب من دون اعتماد منطق «الكسر الأكبر» لتبرير بعض المواقف التي تسبّبت بالعقد الماثلة حالياً.
ووفق المنطق المشار اليه يمكن عندها تبرير إصرار العهد على توزير النائب طلال ارسلان إذا ما اعتُمد مبدأ حصرية التمثيل النيابي وفق النسبية على أساس المذهب.
وعليه فقد فاز الحزب التقدمي الاشتراكي بسبعة مقاعد نيابية من اصل ثمانية ولتمثيل المتمايزين عنه نيابياً فقط يمكن عندها تبرير توزير ارسلان دون سواه من خارج الندوة النيابية.
وعليه يظهر جلياً أنّ اعتماد هذه الطريقة بشموليّتها لا يحلّ سوى العقدة الدرزية وينتج في الوقت نفسه عقدتين سنّية ومسيحية، فإصرار الرئيس المكلّف على حصر التمثيل السنّي به يضع تسعةً من النواب السنّة من اصل 27 نائباً خارج اطار التمثيل النسبي وهو أمر في حال الإصرار عليه يُسقط أهمية اعتماد النسبية على الساحة الدرزية ويُغلّب منطق الحزب التقدمي على ما عداه.
والى العقدة السنّية ستظهر عقدة مسيحية أكبر حجماً وأكثر تعبيراً عن حجم الخلل الذي يسعون الى تكريسه في التمثيل المسيحي على أنّ اقصاه من حقّ القوى المسيحية الأكثر تمثيلاً. فاللجوء الى المنطق عينه يُفقد أقل من ثلث النواب المسيحيين حقهم في التمثيل الوزاري. فحصة «التيار الوطني الحر» وحلفائه 27 نائباً مسيحياً و«القوات اللبنانية» 15 نائباً، وإذا نال فرنجية بكتلته من أربعة نواب مقعداً وزارياً فإنّ 18 نائباً مسيحياً سيبقون خارج التمثيل الحكومي من دون أن يُحدث ذلك ضجيجاً كان يمكن في حال اللجوء اليه أن يصيب مبدأ العدالة والتوازن وحسن التمثيل المطلوبين بقوة في الصميم.
على أنّ اللجوءَ الى حكومة أقطاب أو حكومة من التكنوقراط الإختصاصيين قد يكون مخرَجاً ممكناً لإنهاء الأزمة الحكومية وتعقيداتها المختلفة، لكنّ مجرد التفكير بهذا المنطق قد يكون حلماً بعيدَ المنال. فالقوى الأكثر تمثيلاً رفضته وسترفضه كما رفضت «حكومة أكثرية» تأكيداً منها أنّ مبدأ تقاسم السلطة فرصة لا تفوّت ولا يوجد مَن هو مستعدّ للتخلّي عنها.