ويقال أيضاً إنّ عون لا يريد أن يبدأ السنة الثالثة من عهده بالفراغ، خصوصاً أنه يعتبر أنّ السنة الثانية من عهده شهدت أوّلَ انتخابات تمثيلية من نوعها ولا بأس إن تأخّر تأليفُ الحكومة لبضعة أشهر، ولكنّ حدودَه يجب أن تقف عند نهاية السنة الثانية من الولاية الرئاسية.
ويبدو، أيضاً وأيضاً، أنّ هناك تصميماً على أن تنال الحكومة الثقة قبل31 تشرين الأول، فتكون إطلالةُ رئيس الجمهورية على اللبنانيين مبشّرةً بمرحلة سياسية جديدة وواعدة اقتصادياً ومعيشياً وحياتياً. ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه: هل هذه الأجواء التفاؤلية مبالغٌ فيها وأنّ محطة 31 تشرين ستكون كسائر المحطات التي عبرت من دون تأليف حكومة؟ أم أنّ ثمّة إرادة فعلية لكسر دوامة الفراغ القائمة؟
وبما أنّ العُقدة ليست خارجية، وبما أنّ القاصي يعلم، كما الداني، أنّ الحلّ موجود لدى رئيس الجمهورية في حال قرّر أن «يكبس»، حسب تعبيره، الوزير جبران باسيل المسؤول الأول والأخير عن التأخير في التأليف، فلا شيءَ يمنع نظرياً من تجاوز عقد التأليف والذهاب إلى حكومة، وبالتالي الكلام عن تأليف الحكومة قبل حلول الذكرى الثانية لانتخاب عون رئيساً يصبح واقعياً.
وإذا كانت البلادُ تتّجه فعلاً نحو التأليف فهذا يعني أنّ هناك عوامل مباشرة وأخرى غير مباشرة أدّت دورَها في دفع التأليف قدُماً، وهي كالآتي:
ـ أولاً، العوامل المباشرة:
1ـ التحدّيات الاقتصادية التي لا يمكن القفزُ فوقها ولا الهروب منها، وهي ليست تقديرات ولا تحليلات بل تقارير دولية وأرقام علمية تُظهِر أنّ عدم تأليف الحكومة والسير في إصلاحات اقتصادية بنيوية يعني أنّ لبنان ينزلق رويداً رويداً نحو الهاوية، ورأس الهرم يتحمّل أكثر من غيره مسؤولية عدم المبادرة، خصوصاً أنّ «القوات اللبنانية» بادرت في اتّجاهين: التسهيل تمهيداً للتأليف، وتفعيل حكومة تصريف الأعمال بأضيق جدول أعمال ممكن لمواجهة الأخطار الاقتصادية.
2ـ التهديداتُ الإسرائيلية التي اعتُبِرَت، أقلّه شكلاً، ومن أعلى منبر دولي أنها جدّية وتخفي في طياتها الاستعدادَ لضربة إسرائيلية تستدعي مواجهتها من مربّع وحدة الموقف اللبناني. وعلى رغم أنّ لبنان يحظى في هذه المرحلة بحصانة دولية وعربية كبرى خصوصاً بعد مؤتمر «سيدر»، ولكن لا يُفترض الاستخفافُ بالتهويل الإسرائيلي، وبالتالي يُفترض اتّخاذُ كل التدابير لحماية لبنان ومن بينها تشكيل حكومة، وقد يكون «حزب الله» تقصّد الحفاوة الزائدة للمطالبة بتسريع التأليف خشيةً من أيّ تطورات محتملة مع الجانب الإسرائيلي.
3ـ سقوط فكرة تأليف حكومة أكثرية والتي لا تحظى بترحيب أيِّ جهة سياسية وفي طليعتها «حزب الله» الذي يريد حكومة تجمع القوى الأساسية تجنّباً لوجود قوة وازنة خارج الحكومة تشكل نواةً فعلية لمعارضة قابلة للتوسّع سريعاً في ظلّ الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وتدخل البلد في انقسام سياسي عمودي مجدّداً، فيما أيُّ معارضة خارج إطار القوى الأساسية التي أفرزتها الانتخابات تبقى محدودة وتأثيرها هامشي.
4ـ سقوط إمكانية انتزاع «التيار الوطني الحر» لـ«الثلث المعطل» في ظلّ اعتراض جميع القوى السياسية وفي طليعتها الحليفة لهذا الفريق لسببين: الأول لأنه لا يجوز أن يكون هذا الثلث رهنَ فريق واحد، والثاني لأنّ أداء هذا الفريق غيرُ مطمئن وطنياً، وبالتالي لا يُسلَّم ورقة من هذا النوع.
5ـ سقوط محاولات تحجيم «الحزب التقدمي الإشتراكي» و«القوات اللبنانية» أو إحراج الأخيرة لإخراجها، وبالتالي يجب التلاقي في منتصف الطريق أو ترجمة المعادلة الذهبية التي تحدث عنها الرئيس نبيه بري وهي «التوازن في التنازلات»، إذ لا يمكن أن تؤلّف حكومة على حساب طرف من الأطراف، ولا أن تؤلّف حكومة غالب ومغلوب، فيما تشكّل هذه المعادلة المدخلَ الى تأليف حكومة متوازنة، لأنّ التوازن في التنازلات يؤدّي إلى الحفاظ على التوازن في داخلها.
ـ ثانياً، العوامل غير المباشرة
1ـ بدأ فريق رئيس الجمهورية يلمس «لمسَ اليد» النقمة الواسعة للرأي العام اللبناني الذي يحمِّل باسيل وفريقه مسؤولية التأخير وتبعاته على وضع البلد، وكل المحاولات لإبعاد هذه المسؤولية باءت بالفشل.
2ـ الهيئاتُ الديبلوماسية على مختلف مواقعها ومسؤولياتها تحمٍّل هذا الفريق مسؤولية تأخير ولادة الحكومة.
3ـ القوى السياسية على اختلافها تحمِّل باسيل ضمناً وعلناً مسؤولية التأخير.
4ـ انعكاسات «ستاتيكو» الفراغ كانت سلبية جداً على فريق رئيس الجمهورية داخلياً وخارجياً وشعبياً وسياسياً، وبالتالي يريد تأليف الحكومة لاستعادة المبادرة.
5ـ عدم القدرة على إخراج «القوات اللبنانية» من الحكومة دفع هذا الفريق إلى تسريع التأليف للالتفاف على شعبيّتها التي ما زالت متنامية منذ ما قبل التأليف، فيما الاستمرار في الفراغ أدّى إلى تراجع شعبية الفريق الذي ينتمي إليه باسيل ومواصلة «القوات» تقدّمَها، وبالتالي يجب بالنسبة إليه الانتقال إلى خطة «ب».
ولعلّ أبرز إشارة إلى أنّ هذا الفريق قرّر توسيع «كوعه» تمثلت بالتنازل عن موقع نيابة رئاسة الحكومة لـ«القوات»، علماً أنها تبلّغت سابقاً أنّ هذا الموقع إنتقل إليها استثنائياً وأنه عِرفاً لرئيس الجمهورية الذي يريد العودة إلى تطبيق القاعدة المعمول بها، وبالتالي ماذا عدا ممّا بدا ليكون من المحرّم على «القوات» الاحتفاظ بموقع نيابة رئاسة الحكومة، ومن ثمّ يصبح التنازل عن هذا الموقع أمراً طبيعياً؟
وفي الإجابة يمكن التوقف أمام إحتمالين لا ثالث لهما:
ـ الاحتمال الأول، أن يكون باسيل قرّر التنازل فعلياً نتيجة عوامل ذاتية ضاغطة جداً تمّ ذكرُها وتعدادُها.
ـ الاحتمال الثاني أن يكون باسيل قرّر التنازلَ شكلاً لا فعلاً من أجل إبعاد المسؤولية عن نفسه ورمي التعطيل في ملعب غيره، ما يعني مناورةً جديدة كل الهدف منها الاستمرار في سياسة الفراغ تحقيقاً لأهدافه الفعلية بـ«الثلث المعطل» وإبعاد «القوات» من التشكيلة الحكومية وغيرهما ولكن بشروط وطنية أفضل.
وإذا كانت الفوضى في تعميم الصيَغ الحكومية المتناقضة على وسائل الإعلام في الأيام الأخيرة والتي يقف خلفها باسيل لا تؤشر إلى نيّات جدّية من أجل «توازن في التنازلات» يسمح بولادة الحكومة العتيدة خلافاً لما يحصل ولا يعدو كونه مناورات متواصلة، فإنّ الساعات القليلة المقبلة كفيلة بتبيان ما إذا كانت البلاد قد دخلت جدّياً في مرحلة تأليف الحكومة بغية أن تكون الذكرى السنوية الثانية لانتخاب عون محطة لانطلاق الحكومة الجديدة، أم أنّ الفراغ مرشّح لمزيد من فصول الفراغ والتعطيل والمواجهات؟