لجأ «حزب الله» منذ التسوية الرئاسية إلى سياسة الحياد عن الصراعات الداخلية متقصِّداً التبريد السياسي مع خصومه، ومبتعداً عن سياسة المحاور المحلية لثلاثة أسباب أساسية: حاجته إلى الاستقرار السياسي في مرحلة تحولات خارجية، وترييحاً لبيئته التي يصعب عليها تغطية انقسامات داخلية وحروب خارجية؛ عدم رغبته في إحياء الفرز بين 8 و14 آذار؛ تسليفه للعماد ميشال عون انتخابه رئيساً، وإطلاقه إشارات عدة الى أنه لم يعد معنياً بأقل من ذلك، خصوصاً انّ انتخاب عون أعاد خلط الأوراق والتحالفات وأدخل البلد في مرحلة غير مسبوقة منذ العام 2005 وهي ترحيل الملفات الخلافية وتثبيت الانتظام المؤسساتي.
ولكن الانتخابات النيابية شكّلت بالنسبة إلى باسيل محطة فاصلة بين مرحلتين، مرحلة انتخاب عون ومرحلة خلافته، فاعتبرها مناسبة للخروج بأحادية مسيحية وتكريسها في الحكومة لكي يدخل السباق الرئاسي من موقع قوة واضعاً الجميع أمام الأمر الواقع الانتخابي، ولكن حسابات الحقل لم تنطبق على حسابات البيدر فحققت «القوات اللبنانية» ما لم يكن باسيل يتوقعه على رغم حصاره السياسي عليها وإطلاقه معركة مواجهتها والتنصّل من اتفاق معراب.
ومن الثابت انّ هناك أمراً ما قد تبدّل بين ما قبل الانتخابات وما بعدها مع عودة «حليمة إلى عادتها القديمة»، لجهة المواجهات المفتوحة بسبب أو من دون سبب ومع كل الأطراف بالجملة والمفرّق، في محاولة لأن يحقق باسيل ثلاثة أهداف أساسية: انتزاع مشروعية سياسية مفقودة من خلال شَد العصب داخل تيّاره بإظهار انه الأقدر على خوض المواجهات وحتى «منازعة الرياح». محاولة فرض شروطه في تأليف الحكومة في مرحلة يعتبرها أساسية لخلافة عون، خصوصاً انّ عمر الحكومة العتيدة قد يكون من الأطول في تاريخ الجمهورية اللبنانية، لأنه من الصعوبة بمكان تأليف حكومة بعد انتخابات العام 2022 في حال حصولها، كما يُستَصعب انتخاب رئيس ضمن المهلة الدستورية بعد انتهاء ولاية عون، ما يعني انّ الفراغ سيطول ويطول. إنتزاعه بالحد الأقصى تعهدات بانتخابه رئيساً، وخلقه بالحد الأدنى مواقع نفوذ داخل الطوائف: إضعاف موقع «القوات» ونفوذها مسيحياً، تضخيم الحيثية الإرسلانية درزياً، وإخراج «حزب الله» من موقف الحياد إلى الدعم المطلق للسياسة الباسيلية في تموضعاتها المحلية وتطلعاتها الرئاسية.
وفي موازاة حياد «حزب الله» اعتمد عون سياسة الرئيس الذي يقف على مسافة واحدة من الجميع، على رغم بعض المواقف الداعمة للحزب والتي تقابلها مواقف في الاتجاه الآخر من «خطاب القسم» إلى زيارته الخارجية الأولى للمملكة العربية السعودية وعدم تخصيصه طهران بأيّ زيارة وإبقائه علاقته مع النظام السوري بعيدة من الأضواء حرصاً على الاستقرار الداخلي وعلاقته مع المجتمعين العربي والدولي.
ولكن أي متّتبع للمواقف التي أطلقها عون في زيارته الخارجية الأخيرة إلى الأمم المتحدة يخرج بانطباع مفاده انّ رئيس الجمهورية قرر الخروج من سياسة الحياد او المسافة الواحدة إلى الدفاع عن «حزب الله» من أعلى منبر دولي، وتبرير مقاومته وتبنّي سياساته ومواقفه وربط سلاحه بانتهاء أزمة الشرق الأوسط. وحيال ذلك هناك من يسأل: هل سيرد «حزب الله» الجميل لعون، وكيف؟ وهل تسليف عون للحزب سيقابل بتسديد مستحقات هذا التسليف حكومياً، وكيف؟ وهل يخرج الحزب عن حياده الداخلي مع خروج عون عن حياده؟ وهل يتبنى الحزب وجهة نظر فريق رئيس الجمهورية حكومياً؟
وفي مقابل هذه التساؤلات هناك من يسأل أيضاً: ماذا يمكن ان يبدِّل تموضع «حزب الله» المفترض في حال أصرّ الرئيس المكلف سعد الحريري على تشكيل حكومة متوازنة وطنياً وتأخذ في الاعتبار نتائج الانتخابات ورفضه تشكيل حكومة «أمر واقع» او «حكومة أكثرية»؟ وهل الحزب في وارد استخدام سلاحه او «القمصان السود» للضغط من أجل تأليف حكومة بشروط باسيل في مرحلة تأتيه فيها الضغوط من كل حدب وصوب: عقوبات أميركية، محكمة دولية، تهويل إسرائيل وصل إلى حد رفع رئيس وزرائها صوراً لمواقع عسكرية للحزب قرب مطار بيروت، تشديد الخناق على إيران، تحوّل دوره في سوريا دوراً ثانوياً؟ وهل الحزب في وارد الدخول في مواجهة مثلّثة الأضلع مع «المستقبل» والقوات» و«الإشتراكي» من أجل مقعد بالزائد او بالناقص لباسيل؟ وهل يعتبر الحزب انّ معركة باسيل «المصيرية» هي معركته، وألا يخشى توريطه في انقسام داخلي هو أبعد ما يكون عنه في هذه الظروف؟
لا شك انّ الحزب سيبحث عن طريقة إمساك العصا من وسطها لجهة إرضاء عون بعد مواقفه الخارجية، ولكن من دون ان يفتح على نفسه جبهة داخلية في معركة لا تدخل ضمن استراتيجيته وتتصل بالحسابات المحلية والصغرى لباسيل، خصوصاً انّ المرحلة الحالية مختلفة عن السابقة لجهة انه كان يرفع شعار لا حكومة من دون تلبية شروط «التيار الوطني الحر»، ولكن ما الشعار الذي سيرفعه اليوم: لا حكومة من دون شروط باسيل؟ فعدم التأليف في العهود السابقة كان يصيب تلك العهود ويضرّها، فيما عدم التأليف اليوم يضر بالعهد الحالي، فالرد سيكون عليه «وعمرا ما تِتشكّل حكومة».
وفي هذا السياق لا يمكن التقليل من دور العامل الخارجي الذي لا يتدخّل في التأليف لا من قريب ولا من بعيد، ولكنه في الوقت نفسه لن يسمح بحكومة من لون واحد وبشروط فريق واحد، بل على أثر مواقف عون الخارجية أصبحت مشاركة «القوات اللبنانية» مثلاً أكثر من ضرورية دولياً، فهو يستطيع أن يربح موقف «حزب الله»، وهذا صحيح، ولكنه سيخسر في المقابل موقف المجتمع الدولي وقوى سياسية محلية أخرى.
وأمّا العامل الآخر الذي قد يدفع «حزب الله» ربما إلى تبديل موقفه الانتظاري والضغط لتأليف حكومة، فيتمثّل بالتهويل الإسرائيلي الجديد من خلال رفع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أمام أعلى هيئة أممية في العالم صوراً لقواعد مزعومة لمنصات صاروخية دقيقة للحزب قرب المطار يمكن توجيهها إلى أهداف في عمق إسرائيل، وبالتالي يمكن ان يُستخدم هذا العامل للقول بضرورة تأليف حكومة تتحمّل مسؤولياتها في حال قررت تل أبيب شَنّ الحرب على لبنان، ما يستدعي تجاوز الشروط والشروط المضادة، ولكن السؤال هل يعني هذا التطور ضرورة التأليف بشروط باسيل أم الضغط على الأخير لتجاوز شروطه؟
فما بين مواقف عون الداعمة في المطلق لـ«حزب الله» في الأمم المتحدة، وما بين التهويل الإسرائيلي، هل يمكن ان يتبدّل ستاتيكو الفراغ في اتجاه تسريع تأليف الحكومة؟ أم انّ توازنات الداخل ما زالت أقوى من مؤثرات الخارج وستواصل فرض إيقاعها في استمرار «ستاتيكو» الفراغ حتى إشعار آخر؟