كل ما يجري في لبنان، وحوله في المنطقة، يُؤكّد بأننا نمرّ في مرحلة استثنائية، نجتاز ظروفاً في منتهى الصعوبة، ونتخبّط في دوّامة من الصراعات، منها ما بقي على المستوى السياسي، ومعظمها تحوّل إلى مواجهات دموية.
التطورات النارية المتلاحقة في المنطقة، لا تحتاج إلى كثير من الإثبات والتدقيق، مِن سوريا والعراق، إلى اليمن شرقاً وليبيا غرباً، وفي قلب المنطقة الضفة وغزة، وما بقي من أرض فلسطين، تفتك بها جميعاً لعبة الأمم، فتقضي على معالم الدول، ووحدة المجتمعات، وتؤسس لحروب طائفية ومذهبية وجهوية، تمتد عقوداً من الزمن، تستنفد الحاضر والمستقبل، وتأكل الأخضر واليابس، من مقوّمات الوطن.
أما في لبنان، يبدو مسلسل الأزمات، والتعثرات المتنقلة من السياسة إلى الإدارة، وصولاً إلى الاقتصاد، بمثابة الحبل الذي يشدّ على خناق اللبنانيين، في ظل عجز مُتمادٍ للطبقة السياسية عن إخراج البلاد والعباد من هذا النفق، الذي لا يظهر، حتى الآن على الأقل، بصيص نور في آخره، يُبشّر بقرب انتهاء هذه المرحلة الصعبة والاستثنائية في تاريخ لبنان.
هبوط نمو الناتج الوطني إلى 1 بالمئة، ارتفاع المديونية العامة بهذه السرعة المتزايدة، زيادة الفوائد المصرفية بهذا الشكل الصاروخي، جمود الحركة الاقتصادية، ركود النشاط التجاري، هذا الترهل المخيف في إدارات الدولة، وما يرافقه من حالة تسيّب في مرافق الدولة، مقابل انتشار آفة الفساد بهذا الشكل السرطاني، وارتفاع مؤشرات البطالة إلى ما يزيد عن 28 بالمئة، وازدياد عدد اللبنانيين الذين يعيشون على خط الفقر إلى 32 بالمئة، حسب إحصاءات الأمم المتحدة (لا كهرباء ولا مياه صالحة للشرب، وطوفان قريب للنفايات).. كلها دلائل على خطورة الأوضاع التي يعاني منها البلد، فيما المراجع الرسمية، والقيادات السياسية، تتصارع على الحصص الوزارية، وعلى مغانم السلطة، التي ما زال البعض يتعامل معها وكأنها «بقرة حلوب»!
من مظاهر العجز والإفلاس التي تحيط بالحركة السياسية عامة، وبالإدارة الرسمية خاصة، هذا القصور المتمادي في تأليف «حكومة العهد الأولى»، والمراوحة المُملّة في دوّامة المحاصصة الفارغة، من دون أي محاولة للخروج من هذا المسار التقليدي لتأليف الحكومات في الأحوال الطبيعية، والتفكير جدياً بصيغ استثنائية للعمل الحكومي، تأليفاً وتنفيذاً، تحاكي تلك الظروف الاستثنائية، وبالغة الخطورة التي يمرّ فيها لبنان.
علمتنا التجارب المريرة، على امتداد عهود الاستقلال، أن المرحلة الاستثنائية تتطلب حكومة استثنائية وغير عادية. هذا ما حصل مع حكومة اللواء فؤاد شهاب إثر استقالة الرئيس بشارة الخوري، وهو ما فعل مثله الرئيس شهاب بعد أحداث عام 1958 حيث بدأ عهده بالحكومة الرباعية، وهو ما حصل لاحقاً في ظروف مماثلة مع الرؤساء شارل حلو وسليمان فرنجية والياس سركيس وأمين الجميل، الذي بدأ عهده مع حكومة تكنوقراط برئاسة الرئيس شفيق الوزان، حصلت على الصلاحيات الاستثنائية من مجلس النواب، وأصدرت أكبر عدد من المراسيم الاشتراعية في تاريخ الحكومات اللبنانية.
البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي استبق الأطراف السياسية، والمرجعيات المعنية، واقترح تشكيل «حكومة حيادية» من خارج الحلبة السياسية الملتهبة، وتضم كفاءات وخبرات تستطيع أن تعيد البلد إلى سكة النجاة، بعيداً عن مهاوي الأزمات التي يتخبّط فيها.
ولكن صرخة سيّد بكركي بقيت في وادي قنوبين، على ما يبدو، لأن المسؤولين أصمّوا آذانهم، واستمرّوا في اجترار خلافات المحاصصة في حكومة ثلاثينية فضفاضة، وكأن البلد قادر على تحمّل المزيد من الإنفاق غير المجدي، فيما الدول المانحة في مؤتمر «سيدر» تنتظر تنفيذ تعهدات الإصلاح المالي والإداري، قبل المباشرة في تحقيق التزاماتها تجاه لبنان.
الرئيس فؤاد السنيورة طرح تشكيل «حكومة أقطاب» مصغرة، تضم القيادات ورؤساء الكتل النيابية، وتكون قادرة على تحقيق النقلة النوعية المطلوبة للبلد، بسرعة، لأنها تضم أصحاب القرار لدى الأطراف السياسية، وبالتالي تساهم باستعادة الثقة، الداخلية والخارجية، بقدرة الدولة اللبنانية على تجاوز الصعوبات الراهنة، وبجدية الأطراف السياسية على التعاون لمعالجة الأزمات الخانقة التي يتخبّط فيها البلد، قبل الوصول إلى الهاوية.
مَن يقول أن تمثيل هذا الحزب بثمانية وزراء، وآخر بستة وزراء، وثالث بخمس أو أربع وزارات، في حكومة ثلاثينية، سيكون أقوى وأفعل من وجود القيادات ورؤساء الأحزاب والتيارات السياسية أنفسهم في حكومة مصغرة، تتجنب مناقشات طحن الهواء الفارغة، وتركز على الإنتاجية والقرارات الفاعلة، للخروج من دائرة العجز والإفلاس؟
في لبنان الزمن الجميل، وفي دول العالم الديموقراطية، يتم اللجوء إلى صيغة «الحكومات الاستثنائية في الظروف الاستثنائية»، والتي غالباً ما تكون مصغرة، وقادرة على العمل والإنتاج بالسرعة المرجوة!
فكيف إذا كانت أحوالنا المتردية وصلت إلى ما هي عليه على شفير السقوط المدمّر، ويضاف إليها في الأيام الأخيرة، التهديدات الإسرائيلية المباشرة ضد مطار بيروت والمناطق المحيطة به، بحجة وجود مصانع لتعديل صواريخ «حزب الله»؟
وسؤال أخير:
ماذا يفعل «العهد القوي» إذا لم تكن ثمّة «حكومة قوية»، بتركيبتها، وبقدرتها على التحرّك والإنتاج والإنجاز؟