لم نرَ في الإسلام أنه حدَّد وسيلة لمحاسبة الحاكم، بل ما رأيناه هو الخلاف بين الفقهاء والعلماء حول وجوب إطاعة الحاكم ووجوب الرجوع إليه فقط وفقط، فالشيعة الإمامية ذهبوا أنَّ الرَّاد على الفقيه الحاكم والجامع للشرائط هو كالرَّاد على الله تعالى ورسوله (ص)، ولم يحدِّدوا لنا كيف يكون حاكماً على الأمة الإسلامية جمعاء، وأيضاً لم يحدِّدوا لنا كيف يمكن أن نحاسبه أو نعزله وبالأخص إذا كان تحت يده مصير مجتمع بأكمله...
والسنة بأغلبية مذاهبهم ذهبوا أيضاً إلى وجوب إطاعة الحاكم حتى ولو لم يكن مستوفياً لجميع الشرائط، والبعض ذهب حتى ولو كان جائراً، وأيضاً لم يحدِّدوا لنا كيف يمكن أن نحاسبه أو نعزله، لأنه فرض عينٍ على الأمة الإسلامية جمعاء، وجعل طاعة الحاكم كطاعة الله تعالى ورسوله الكريم (ص)... من هنا لم نجد من أنَّ الإسلام بيَّن الوسيلة والطرق السليمة لتغيير الحاكم، ولذا رأينا في التاريخ كيف لجأ المسلمون إلى الحروب والإغتيالات لتغيير حكامهم وأنظمتهم، وهذا ما يجري إلى الآن في بلادنا ودولنا، ولا يمكن عزل أو تغيير الحاكم إلاَّ بشن الحروب والإغتيالات لعزله، هذا إن استطاعت المعارضة عزله قبل أن تسحقها آلة التدمير والقتل...
إقرأ أيضًا: صديقي البحريني يحفظ متن الكافي...
حتى القرآن الكريم لم يقدِّم نفسه نظام حكم ودولة، بل لأن القرآن الكريم أكبر من أن يُستغل من الأحزاب والحركات الدينية والإسلامية لتبرير سلطتهم ولو أدَّى إلى هدم الكعبة من أجل البقاء على جماجم الناس، ولو كان القرآن الكريم دولة كما يزعمون، لتحوَّل الدِّين من هداية وإرشاد، إلى سياسة دينية، وفي هذا فرقٌ كبيرٌ هو الذي غيَّر مجرى التاريخ،ولا أظنه يخفى على أحد أنَّ السياسة هي مكرٌ وخداعٌ ودهاءٌ، وجريٌ وراء المصالح الذاتية، وشعارها كما قال:"ميكافيلي، الغاية تبرِّر الوسيلة"، فلا أحد يحدثنا عن قانون ديني وإسلامي يحاسب الحاكم الديني أو الفقيه والمرجع وولي الفقيه، ولا أحد يحدثنا عن الدولة الدينية التي أمرنا بها القرآن الكريم، التي لم يرسم لها نظاماً خاصاً ودستوراً معيناً، وكذلك النبي (ص)، بل إن جوهر الإسلام هو "العدل، والحرية، والمساواة" وتحقيقها بيد الأنظمة الوضعية التي بدورها سعت وتسعى إلى هذه الغاية المنشودة، وأما خيال المسلمين، أو مخيال المسلم، للدولة والخلافة الإسلاميتين، ما هو إلا نتاج تاريخ خيالي لفكرة الدولة والخلافة، لا يخرج عن كونه محاولة لتأليف صورة ذهنية قد تكون جميلة، ولكن للأسف ليس لها حقيقة في تاريخنا وواقعنا، ومن حقهم أن يحلموا، ولا يحق لأحد أن يمنع أحداً من أن يحلم، إلا أن الحلم شيء والواقع شيءٌ آخر، تماماً كما وصف الكاتب القدير الإسباني (ميجيل دي سرفانتس) في قصته الشهيرة "دون كيخوته" حيث يعيش البطل العجوز في الماضي مسبوقاً في قراءة الكتب القديمة، حتى تستبد به الرغبة في أن يكون فارساً بعد أن انقضى زمن الفرسان فيرتدي الدرع، ويمتشق السيف، ثم يتخيَّل أنَّ طواحين الهواء جيوش من الأعداء فيهجم عليها ليهزمها.ويبقى السؤال:هل سنظل نحارب طواحين الهواء؟