يتصرّف حكّام لبنان، لا سيّما جناحهم الحاكم، كما يتصرّف الواثق من أنّ بيته لن يحترق لأنّ مفاتيح البيت في جيبه. هذه «السيطرة» على الأمور تبدو هذائيّة خالصة بالقياس إلى الواقع.
من جهة، طريقة حياة طفيليّة واثقة من قدرتها على الاستمرار إلى ما لا نهاية لدى «عليّة القوم»، وشعبيّة طائفيّة مضمونة حتّى إشعار آخر للزعيم الطائفيّ، و «عهد قويّ» يوفّر للّبنانيّين «الأقوياء» صدّ المخاطر الكثيرة، وإرادة واحدة تقرّر بالنيابة عن العالم كيف تحلّ مشاكل باتت عالميّة كالهجرة واللجوء.
من جهة أخرى، فساد فلكيّ لا يكفّ عن النموّ، ومديونيّة عامّة هي الأخرى فلكيّة، ومحارق وبيئة شديدة التلوّث، وهوّة لا تني تتّسع بين الطبقات كما بين الطوائف والمناطق، وحكومة تعجز الكتل السياسيّة الطائفيّة عن تشكيلها، ولكنْ فوق هذا، وقبله، وإلى حدّ ما بسببه: ازدواج لا يعرفه أيّ بلد في العالم في السلطة وفي الجيش، وتالياً في قراري الحرب والسلم.
تغييب الواقع لمصلحة الهذيان يتّخذ أشكالاً عدّة: من فولكلوريّة السياسة وفولكلور «الأخوّة» بين اللبنانيّين، إلى حجب العالم الخارجيّ عن النظر مقابل حجب أنفسنا عن هذا العالم: هكذا نصوّر أنفسنا من فوق منصّة الأمم المتّحدة بوصفنا لا نعاني إلاّ مشكلة النزوح واللجوء. أمّا إيمانويل ماكرون، رئيس فرنسا، فيقول كمن يصرخ استغرابه: «الآن يريد اللبنانيّون إعادة السوريّين إلى بلادهم»!. هنا، وكما نعرف جيّداً، يتقدّم الهذيان على حصان «المؤامرة» - «مؤامرة» العالم علينا. والمبدأ المعروف يقول إنّ الـ «أنا» العُصابيّ يحترف تلك اللعبة: أن ينسب إلى نفسه كلّ ما هو مصدر للّذة، وأن ينسب إلى سواه كلّ ما هو مصدر للألم.
لكنّ الواقع صعب التغييب. إنّه يقرع بابنا بألف يد فيهبط بنا فجأة من علياء هذياننا إلى أسئلة الوجود والعدم: طمأنة إلى أنّ «التوتّر» المسيحيّ – الدرزيّ في بعض قرى الجبل لن يُعيدنا إلى أجواء «فتنة» كحرب الجبل في الثمانينات أو حرب ستينات القرن التاسع عشر. طمأنة يوميّة إلى أنّ اقتصادنا وليرتنا لن ينهارا، وأنّ العقوبات الدوليّة لن تعضّنا، إذا فعلت، إلاّ بأسنان حليبيّة، وأنّنا بالتالي لن نموت جوعاً. والآن، لا بدّ من الطمأنة إلى أنّ بنيامين نتانياهو يكذب حين يقول إنّ صواريخ إيرانيّة مخبّأة تحت ملعب لكرة القدم في بيروت. نتانياهو كذّاب بالتأكيد، لكنّ هذا ليس ضمانة مطلقة بأنّه كان يكذب.
ثنائيّة الواقع والهذيان هي، من زاوية أخرى، ثنائيّة الذات والآخر، أي الصلة بالعالم. هنا تسعفنا رمزيّة المطار بوصفه قناة الاتّصال الأبرز بهذا العالم: قبل شهر، تعطّلت الأجهزة الألكترونيّة وتأخّرت الطائرات وعجز مسافرون عن اللحاق بطائراتهم. قبل ثلاثة أيّام كادت تنشب الحرب بين جهازين أمنيّين في المطار. قبل خمسة أيّام شاع خبر يقول: «حجز الرئيس اللبنانيّ طائرتين، الأولى ضمّت وفداً فضفاضاً من أكثر من خمسين شخصاً، بينهم زوجته وابنته وطبيبه وحرّاسه، وأخرى لنقل الوقود لتلك الطائرة، بحيث أُنزل 150 من ركّابها». مطارنا – الذي كفّ منذ سنوات عن استقبال الكثيرين من العالم – بات لا يوصل الكثيرين إلى ذاك العالم.