ليس عبثاً أن يُسرّب خبر زيارة الحريري لعون سرّاً، فقد فضل أن تبقى الزيارة سرّيةً جداً بغية حماية تشكيلة وزارية جديدة يمكن تسويقها لدى حلفائه. فهو يدرك أنّ مواقف عون المتصلّبة وكذلك مواقف حليفيه «القوات» اللبنانية» والحزب التقدمي الإشتراكي تُنبئ بتأجيل التأليف الى ما شاء الله.
فالحريري يدرك اكثر من غيره أنّ رئيس الجمهورية عندما قال كلمته في التشكيلة الأخيرة المعلن عنها في 4 ايلول الماضي جمّد كل أشكال المفاوضات في شأنها وتمسّك بها حتى النهاية مهما طالت العملية، فهو يعتقد أنّ هذه الحكومة هي حكومة العهد الأولى والأخيرة ولا يمكنه التهاون أو غضّ النظر عمّا لا يراه مناسباً ليدير شؤون البلاد والعباد أيّاً كان الثمن على رغم الكلفة الغالية التي يدفعها من رصيد العهد، وقد بات على عتبة الثلث الثاني منه وقد استهلك ربع الثلث الاول الحالي تعطيلاً حكومياً.
على هذه الخلفيات كشفت مصادر واسعة الإطّلاع أنّ زيارة الوزير غطاس خوري لبعبدا في 7 ايلول الجاري التي أنهت السجال حول الصلاحيات الرئاسية في تأليف الحكومة، أطلقت مساراً سرّياً من المفاوضات غاب عنه طباخون كثيرون بغية معالجة ملاحظات رئيس الجمهورية في هدوء لاجتراح صيغة توفّق بين مضمونها وبين ما أراده الحريري من التشكيلة الأخيرة التي استفزّت عون لأنها جمعت العناصر التي لم يستسغها يوماً.
فما عدا حصة الثنائي الشيعي في تشكيلة 4 أيلول والتي لم تكن يوماً موضعَ نقاش أو جدال، هال عون ما اقترحه الحريري من حصة لـ»القوات اللبنانية» والحزب التقدمي الإشتراكي وطريقة توزيع «وزراء الدولة» واقتصار المسيحيين منهم على حصته و»التيار البرتقالي»، وهو لم يهوَ يوماً «احتكارَ حقائب» وزراء الدولة، على ما قال يومها أحد القريبين منه.
وتقول الرواية المكتومة في القصر الجمهوري و»بيت الوسط إنّ خوري تنقّل بينهما مراراً ناقلاً رسائل الودّ ومقترحات جديدة تعيد النظر في التشكيلة الأخيرة، ومن ضمنها أن يتنازل رئيس الجمهورية مجدداً كما في الحكومة السابقة عن نيابة رئاسة الحكومة لـ»القوات» بلا حقيبة توأم، وإعطاؤها حقيبتين وازنتين دون مستوى أيٍّ من الحقائب السيادية ووزارة دولة.
وتضيف الرواية أنّ الحريري وبعد أن تعهّد بالسعي لحلّ عقدة «القوات» بهذه المعادلة، تبرّع أيضاً بالمقعد السنّي السادس لمَن يمكن اعتباره «نقطة تقاطع» مع «سنّة 8 آذار» وهو محدّد بالإسم والصفة. لكنه وفي المقابل طلب كسر العقدة الدرزية من دون أن يكون الوزير الثالث الأمير طلال ارسلان. فمثل هذا الخيار يخلّ بمنطق العدالة وصحّة التمثيل الذي يصرّ عليه رئيس الجمهورية ومعه القوى الأكثر تمثيلاً في الحكومة. كما أنّ جنبلاط لا يمكنه تحمُّل صيغة من هذا النوع من دون إسناد حقيبة خدماتية مهمة له تعويضاً عن المقعد الثالث. هذا عدا عن إمكان احتساب توزير ارسلان ضمن حصة تكتل «لبنان القوي».
فارسلان وكتلته النيابية التي تمّ «تجميعُها» لا يمكن أن تُحتسب مرتين، مرة له ومرة أخرى للتكتل لتبقى حصة التكتل والرئيس دون الثلث المعطّل.
عند هذه الحدود كانت هذه الصيَغ مغمورة الى أن تسرّب شيءٌ منها الى جنبلاط فكانت مبادرتُه عشية مغادرة عون الى نيويورك، أنه «مستعدّ للتسوية الحكومية متى حان أوانها» وعند توافر «الوسيط» الموثوق، ولكنه شكّك في «صحة» وقوف الحريري الى جانبه حتى النهاية طالما أنه لم يطّلع على أيّ تشكيلة تمنحه حقيبة «الأشغال» أو «الصحة» أو غيرهما من الحقائب الخدماتية. وهو أمر لم يعد سرّاً فقد نقل النائب وائل ابو فاعور الى الحريري هذا الموقف وما فيه من عتب على الحريري واضعاً مطالبه في عهدة الرئيس نبيه بري الذي كان وما زال يعدّه شريكاً في توفير المخارج.
عند هذه المحطة تتّجه الرواية الى لقاء أمس الاول بين الحريري وجعجع الذي كان تلقّى مؤشرات التوجّه الجديد للحريري وما قطعته مفاوضاتُه السرّية مع بعبدا. فاللقاء الذي جمع قبل ايام الوزير ملحم الرياشي بالوزير جبران باسيل أنبأه بوجود «طبخة جديدة» قد تؤدّي الى عزل «القوات» بعد حلّ عقدة «الإشتراكي»، فكان تنسيق مباشر بين جنبلاط وجعجع ترافق مع اتصالات طويلة بينهما وتجوُّل موفدين بين كليمنصو ومعراب قبل فترة من أجل تعزيز ما سمّاه أحد مسؤولي الإشتراكي «جبهة المقاومة» لمطالب رئيس الجمهورية و»التيار البرتقالي».
وتفيد معلومات أنّ الحريري فاتح جعجع في لقائهما امس الاول بعناوين الصيغة الجديدة. فرفضها الاخير مؤكّداً تمسّك «القوات» بالسقف الأول لمطالبها، وهو ما عبّرت عنه مصادرها بعد اللقاء بقولها إنّ «جعجع شرح حقيقة موقفه، وما يقبل وبه وما يرفضه من طروحات في ضوء العروض الجديدة». وهو ما يؤكّد صحّة الهواجس التي تلمّستها معراب في ضوء ما انتهى اليه لقاء باسيل والرياشي. وانتهت المصادر الى «أنّ «القوات» سهّلت مهمة الحريري الى الحدود القصوى ولم تعد قادرة على التنازل اكثر ممّا تنازلت عنه الى الآن».
وخلصت الرواية الى أنّ الحريري فاجأ حليفيه جعجع وجنبلاط بالمقترحات الجديدة التي جاءت تحت سقف مطالب عون وملاحظاته الى حدود «الصدمة» وهو ما أدّى الى رفضهما ما هو مطروح. وهو امر قاد وسيقود الى مزيد من المفاوضات على وقع التعثّر المتوقع للتشكيلة الجديدة طالما أنّ الجميع لم يفهموا بعد أنّ عليهم التنازل لعدم قدرة أيٍّ منهم على فرض ما يريد، وإلّا ستطول الأزمة الى ما شاء الله.