هل هذا قدَرنا نحن اللبنانيين أن نعدّ العصي ونتلقّى الضربات ونتألّم ونصمت صاغرين؟ منذ عام 1958 ونحن نعاني ونكابد، لا يمضي يوم إلاّ وهناك عصا تضرب أجسادنا وعقولنا وتقتل فينا أحلامنا، وكأنّ شعبنا ولد كي يتعذّب ويقاسي، وكأنّ الوطن ملعب للزعران ومصحّ للمجانين. كلّما لاح في الأفق بريق أمل، يأتي أحد المهووسين فيصدّ الباب ويقتل الأمل. ما ذنب شعبنا كي يتحمّل نزوات المهووسين وجشع الأنانيين؟ طالبنا في مقالنا الأخير ببعض التواضع، لا بـ«عضّ الأصابع»، فجاء الجواب: التواضع للضعفاء والخاسرين، وليس للأقوياء والمنتصرين، من دون أن يشرحوا لنا كيف تكون القوة، ومَن يُحدّد معناها وأصولها، ومن هو المنتصر ومن هو المهزوم. للأسف الشديد، بعض المسؤولين لم يتعلّم من عبَر ماضينا الأليم، ولم يسمع يوماً ما قاله ألفرد دو موسيه «ليس للرجل سوى مجد واحد حقيقي، هو التواضع».
بعد مرور أكثر من أربعة أشهر على تكليف الرئيس سعد الحريري، وبعد مضيّ حوالى شهر على الثالث من أيلول، تاريخ تقديم «الصيغة المبدئية» للحكومة لرئيس الجمهورية، يبدو أنّ البلاد مقبلة على مواجهة مفتوحة من دون أفق، وإلى تصعيد سياسي لا يؤشّر لانفراجات، والذي أكّد هذا المسار البائس، ما أعلنه السيد حسن نصر الله لأول مرة «أن لا وجود لحكومة في الأفق»، ممّا يعني أنّ لدى «حزب الله» معلومات بأنّ عملية التشكيل متعثّرة جداً وأنّ الفراغ الحكومي قد يمتدّ لأشهر وربما لسنوات. فهل جاء هذا التأكيد على لسان نصرالله، بعدما أيقن أنّ معركة التأليف هي أبعد من الخلاف على حصّتَي «القوات» و«الإشتراكي»؟
عندما يقرّ «حزب الله» أنّ المسألة طويلة، فهو يُبعد كل الإجتهادات والإحتمالات الظاهرة التي يتداولها الناس وبعض السياسيين فـي أنّ التأخير في التأليف سببه «القوات» و«الإشتـراكي»، وأنّ هناك مَن ينتظر معركة إدلب، والعقوبات الأميركية على طهران، وأحكام المحكمة الدولية... كلّ هذه الإحتمالات سقطت ولم يبق سوى ثلاثة أسباب تجعل «حزب الله» متشائماً. قد يكون السبب الأول التطورات الخطيرة التي حصلت فـي الأجواء السورية، بعد إسقاط الطائرة الروسية واتهام إسرائيل بالتسبّب في إسقاطها، وإعلان وزارة الدفاع الروسية أنها ستسلّم سوريا منظومة صواريخ «إس 300»، مما يعني أنّ المنطقة تسير باتجاه حرب إقليمية شاملة، لا تسمح بتشكيل حكومة لا تميل بأكثريتها الساحقة إلى محور الممانعة. وقد يكون السبب الثاني له علاقة بحسابات رئاسية لـم يخفها رئيس الجمهورية بقوله جهاراً انّ الوزير جبران باسيل هو في طليعة السباق الرئاسي. وقد يكون السبب الثالث رفض السعودية وواشنطن سيطرة «حزب الله» وحلفائه على الحكومة.
مهما كانت الأسباب التي تمنع تشكيل الحكومة، فلا يجب أن تتحوّل إلى معركة «صلاحيات»، لأنّ هذه المعركة لن تعطي مكاسب سياسية وشعبية لأحد، بل ستزيد الأوضاع تعقيداً واهتراءً على كل الصّعد السياسية والإقتصادية والمالية والمعيشية، وكلّما تأخّر التأليف كلما ازدادت التدخّلات الخارجية وأصبحت التشكيلة أسيرة النزاع الإقليمي والتوازن الدولي، وتحوّلت إلى أزمة دستورية مفتوحة.
إنّ تحويل معركة تناتش الحصص وتوزيع المغانم إلى معركة صلاحيات طائفية ومذهبية هو قمة الإنحطاط، ويعيدنا إلى ما قبل أجواء الحرب. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما دام الرئيس المكلّف قدّم «صيغة مبدئية»، فلماذا اعتبرها البعض «صيغة نهائية» وغير قابلة للتعديل أو النقاش وبدأ التصويب عليها؟ هل هناك مَن يتقصّد توسيع الهوّة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة؟ وهل دخلت البلاد فـي «فراغ حكومي» شبيه بـ«الفراغ الرئاسي»؟ وهل مكتوب على اللبناني أن يعيش حياته قلقاً ورهينة الصراعات الداخلية والإقليمية؟
ويبدو أنّ المشكلة الكبرى التي لا حلّ لها فـي المدى المنظور، هي أنّ هناك فريقاً يعتبر نفسه منتصراً في الإنتخابات وفي معارك الإقليم ويريد ترجمة انتصاره في الحكومة. ولذلك كثر الكلام عن احترام نتائج الإنتخابات، وعن وحدة المعايير والأحجام. إنّ هذا المنطق يصحّ فـي بلد ديموقراطي حيث الأكثرية تحكم والأقلية تعارض، وفـي بلد لا يُفرَض عليه قانون انتخاب هجين لا يناسب مجتمعه، وفـي بلد لا يقاطع 51 فـي المئة من شعبه الإنتخابات، وفـي بلد يحترم مبدأ النأي بالنفس الذي جاء في بيان حكومته، لا في بلد قسم من شعبه منخرط في صراعات المنطقة، وفي بلد لا يحدّد مساره ومصيره القائد العام لقوات حرس الثورة الإسلامية فـي إيران اللواء مـحمد علي جعفري بالقول: «إنّ سوريا ولبنان واليمن وفلسطين إختارت نهج الـمقاومة لتحديد مصائرها، وسيكون النصر حليف شعوبها»، والمُستغرَب أن لا أحد من المسؤولين يستنكر أو يردّ. معه حق جورج برناردشو حين يقول: «مأساة العالم الذي نعيش فيه تكمن فـي أنّ السلطة كثيراً ما تستقرّ في أيدي العاجزين».
عند كل استحقاق، يتجدّد السجال حول الدستور والصلاحيات ويأخذ منحى طائفياً ومذهبياً، لأنّ النظام الذي أوجَده دستور «الطائف»، والذي كان يجب تنفيذه أولاً ثم تطويره، لا يقدّم الحلول ولا يؤمّن الإستقرار، ولا يبني دولة القانون والمؤسسات، بل يُسبّب الفراغ فـي السلطة ويفاقم الأزمات السياسية والإقتصادية والمعيشية. وما سقوط المسوّدة «المبدئية» للتشكيلة الحكومية ونحرها في مهدها واستحضار الأجواء الطائفية، سوى أنموذج عمّا ينتظرنا في الآتي من الأيام، حتى بتنا نردّد بألم وقلق وسخط مع الشاعر فتح الله بن النحاس «كم أداوي القلبَ قلّت حيلتي... كلّما داويتُ جرحاً سالَ جرحُ».