العجب العُجاب كيف يمكن تأمين نفقات أسفار الرئاسات الثلاث، مُضافاً إليها جولات سندباد وزارة الخارجية جبران باسيل بحثاً عن مُجنّسين في أقاصي المعمورة. ويتساءل قليلو الحيلة أمثالنا: هل هي موازنات مرصودة سلفاً؟ أم أنّها تُؤمّن باعتمادات إضافية؟ في حين لا يجد المصابون بأمراضٍ مستعصية (أبعدها الله عنكم وعن جميع خلقه) أموالاً كافية في خزينة الدولة (أي بيت المال حسب المصطلح الإسلامي) لشراء أدوية هم بأمسّ الحاجة لها ولا يقوون على شرائها، ويُجاهد وزير الصحة غسان حاصباني منذ حوالي العامين لتأمينها دون جدوى.
إقرأ أيضًا: إيلي محفوض يدافع عن مقام رئاسة الجمهورية .. فعلًا الدّم بحنّ
وهذا ما يطرح السؤال الأبدي حول حماية المال العام، كان المال العام محور الخلاف بين الصحابي أبو ذرّ الغفاري والخليفة عثمان بن عفان ومع معاوية بن أبي سفيان والي الشام لعثمان، كان معاوية يُسمّي المال العام: مال الله، في حين كان الغفاري يدعوه مال المسلمين، وعليه لا يحُقّ للخليفة التّصرُّف به على هواه، بخلاف ماله الحُرّ، وكان تصرُّف الصحابي عبدالله بن عباس ببعض أموال بيت المال في البصرة بداية خلافٍ عميق مع الخليفة الرابع عليّ بن أبي طالب، ومعظم المطاعن التي سيقت ضدّ الخليفة الثالث عثمان بن عفان كانت اعتماده المحاباة والمحسوبية وتوزيع "مال المسلمين" بشكل غير شرعي على أقاربه وأهله، ومثال ذلك أنّه أعطى لمروان بن الحكم، إبن عمّه خُمس مغانم أفريقيا، أي مائة ألف دينار إلى مائتي ألف دينار، ومنح عثمان عمّه الحكم بن العاص (طريد رسول الله) صدقات قضاعة، وذلك في لفتة كريمة وأميرية، وأعطى الحارث بن الحكم ثلاثمائة ألف درهم، وزيد بن ثابت مائة ألف درهم.
مناسبة هذا الكلام الذي غالباً ما يعتبر من البديهيات المكرّرة، إلاّ أنّه يقع هذه الأيام موقعه الموافق، فاستباحة المال العام في لبنان باتت من المُسلّمات، أو كالامور المقضية التي لا رادّ لها ولا حيلة في دفعها كالزلازل والفيضانات والأوبئة، ولا دلائل عليها سوى تكدُّس الثروات في فئاتٍ ضيّقة تتّصل بأهل السلطة والمصالح العامة، كما بات من الواجب المُلزم إعادة التذكير دائماً وأبداً أنّ المال العام (المستباح) هو الذي يحفظ الكرامات والأعراض والدماء، وبكلمة مختصرة هو الذي يحفظ الأوطان، ومناسبة هذا الكلام تصاعد التهديدات بحقّ كلّ من يتصدى للفساد ونهب المال العام.
إقرأ أيضًا: مواكب رئاسية ضخمة تتغذّى من جيوب الفقراء
كان نافع بن علقمة بن نضلة بن صفوان بن محرث، خال مروان والياً على مكة والمدينة، وكان شاهراً سيفه لا يكاد يُغمده، وبلغهُ أنّ فتىً من بني سهم يذكره بكلّ قبيح، فلما أُتي به وأمر بضرب عنقه، قال الفتى: "لا تعجل عليّ، ودعني أتكلم". قال: "أو بك كلام؟" قال: نعم وأزيد، يا نافع: وليت الحرمين تحكم في دمائنا وأموالنا، وعندك أربع عقائل من العرب، وبنيت ياقوتةً بين الصفا والمروة- يعني داره-، وأنت نافع بن علقمة بن صفوان، أحسن الناس وجهاً وأكرمهم حسباً، وليس لنا من ذلك إلاّ التراب، فلم نحسدك على شيءٍ منه ولم ننفسهُ عليك، ونفست علينا أن نتكلّم! فقال نافع: تكلّم حتى ينفكّ فكّاك.