بسبب تلك الواقعية التي يضفيها الراوي لشخوص روايته، ويتنقل بهم من حيّزٍ ثاقب للحدث التصويري إلى جانبٍ مستهتر تدميري، يتولّد تلقائيّاً ومنطقيّاً من المحرّك إلى الدافع إلى الترقب اللانهائي، وتأتي النهاية حانقةً مبكيةً مؤثرة.
المكان المقدّس
القصة تبدأ على لسان الرواي الطفل حسن، الذي يسرد الأحداث ويبدأ بها بالدير، الذي يلعب لاحقاً نقطة تحوّل مفصلية في حبكة الرواية. فيتكلم عن المقدّس «بشاي» الذي يقيم في الدير المجاور لبيته، حيث يحمل في العيد للرهبان المقيمين فيه الحلوى التي تعدّها أمه ويذهب مبهوراً مستكشفاً ما وراء الجدران في هذا المكان المقدّس.
ثم يعرّج إلى حكاية صفية، وهي فتاة تتمرّغ في ربوع الجمال الذي يكرّس معالمه في محياها وعينيها وابتسامتها، وهي يتيمة تنشأ معه في عائلته الفقيرة المحافظة. ربُّ الأسرة هو شيخ دين يعيش مع زوجته وابنه حسن وابنتين لا تمتلكان من الجمال الكثير في ظلال الدين والتوجيه.
تقع صفية في عشق قريبٍ لهم يماثلها في البهاء والجمال، يدعى حربي وتحلم بأن تتزوّج به، بل إنّ أمرَ زواجهما بات وجهاً من الحقيقة المعروفة المتّفق عليها بين أفراد الأسرة وحتى أبناء القرية، ولكنّ حربي يتفاعل مع صفية كشقيقته ويتماهى في عشق امرأة بدوية تسلب مجامع قلبه.
إستدارةٌ مفاجِئة
الإستدارة المفاجئة في سياق الرواية تأتي بعد أن يدخل «الباشا» صاحب الأملاك والجاه وهو قريب حربي بيت والد الطفل حسن في زيارةٍ ظنّها الجميع بأنّها تمهيدٌ لخطبة حربي بصفية، فتنهب الصاعقة روع صفية عندما يكون الباشا هو الطالب ليدها للزواج، فيتلقّى حربي الخبر بترحاب وفرح، وتحتوي هي الصدمة بهدوءٍ ظاهري لا يلبث أن يستحيل حقداً تمليه علينا الأحداث اللاحقة.
إذ تبدأ وشاية المجهولين بعد زواج صفية وولادتها لطفل الباشا بينه وبين حربي، إذ يوعزون له بأنّ الأخير يحاول أن يقتل الطفل من أجل الإستئثار بميراثه بما أنّه قريبٌ له. تتصاعد الأحداث الإنفعالية والعنفية في توتّرٍ جارف،
ويحاول الباشا أن يتعدّى مع حرّاسه على حربي فيعرّوه من ملابسه ويقيّدوه على جذع شجرة ويقومون بسحله وجلده ويكاد أن يُقتل ولكنه في اللحظة الأخيرة يثب وثبة شديدة ويحمل بندقيته ويقتل الباشا.
بين الإنسانية والشرّ
تتوعّد صفية بعد مقتل زوجها بالإنتقام من حربي ونيل ثأرها بعد أن يحكم عليه بالسجن عشر سنوات وبعد خروجه يقوم والد حسن الشيخ الجليل بإخفائه في الدير بعد أن يغمره المقدس بشاي برعايته وحنانه، فلا تستطيع صفية أن تصل إليه لتقتله لأنّ دخول الدير من المستحيلات لأنه بيت من بيوت الله. ولكنه يموت بعد وقتٍ قصير بسبب مرضه الذي دبّ في أوصاله خلال إقامته في السجن، فيجنّ المقدس بشاي حزناً عليه.
لا تتحمّل صفية المشهد الختامي المأساوي لقصة حربي، فالعشق والإنتقام قد اجتمعا في ثنايا روحها ليسفكا نبضها في اختلاجات دموية تترنّح بين الإنسانية والشر. فتموت في فراشها وهي تهذي باسم حربي، تتكدّس صوَر الماضي في مخيلتها وهي تلفظ أنفاسها لتعود إلى نقطة البداية، نقطة حبها الذي لم يلمس أطراف قلبه يوماً.
الثأر قضية شائكة في مصر وفي الكثير من البلاد العربية خاضها الراوي بواقعية مجرّدة من المبالغة والتساؤل والإنبهار.
تحوّلت الرواية إلى مسلسلٍ سينمائي، ولكنّ قراءتها تبدو أكثرَ إثارةً وتشويقاً للقارئ، لأنّ أنفاسَ بهاء طاهر الإبداعية تتجلّى فيها بأبهى انثيالها في قالبٍ انسيابي لا يجرؤ إلّا المتمكّن من خوض غماره والإبحار فيه.