أصبحت تجارة المخدرات في الثمانينيات أقوى وأعلى كلمة من أي قوة عسكرية أو سياسية في لبنان: فمن ريعها اشترى أمراء الحرب السلاح والذخيرة ودفعوا رواتب المسلحين في حرب لبنان الطويلة، أو بنوا الفنادق والمنتجعات وأودعوا أموالاً قبضوها من المهرّبين ومن الجبايات، في حسابات مصرفية. حتى إنّ محصول فصل واحد من القنّب كل عام كان يكفي لتمويل كل الأطراف اللبنانيين بدون دعم خارجي للمتقاتلين. ووفق ديبلوماسيين أجانب في بيروت، فإنّ دفاعات الكانتون المسيحي على كافة الجبهات لن تصمد أكثر من 15 يوماً بدون مداخيل تجارة المخدرات. وهذا المصير الاقتصادي المشترك بين المناطق اللبنانية، إضافة إلى مصالح مشتركة أخرى، أقنع أطراف الحرب من شيعة وسنّة ودروز وموارنة بأن يجنحوا نحو هدنة دائمة جمّدت المحاور الرئيسية لأعوام عدة.
ضلوع إسرائيل وسوريا في المخدرات اللبنانية
عن الدور الإسرائيلي في تجارة المخدرات اللبنانية، سهّلت اسرائيل ومنذ 1948 مرور المخدرات من لبنان إلى مصر وكذلك إلى أوروبا. وبعد الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1978، أصبح عبور المخدرات إلى إسرائيل وثم برّاً إلى مصر أسهل من أي وقت مضى. وخصوصاً أنّ اسرائيل أقامت شريطاً حدودياً محتلاً وعيّنت سعد حدّاد الرائد السابق في الجيش اللبناني مسؤولاً عنه.
وبعد الاجتياح الكبير عام 1982، أزالت إسرائيل الحدود تماماً مع لبنان وسهّلت للتجّار الإسرائيليين غزو الأسواق اللبنانية ببضائعهم الاستهلاكية. ولكن بالمقابل أصبح الطريق مفتوحاً لغزو مقابل من المخدرات اللبنانية لأسواق إسرائيل، حيث تضاعفت الكميات الوافدة من لبنان إلى اسرائيل سواءً للإستهلاك المحلي أو للتصدير إلى مصر وأوروبا. وبات مئات الضباط الاسرائيليين ضالعين في تجارة المخدرات المربحة، وإذا لم يكن معهم دولارات كانوا يبادلون أسلحتهم الفردية بالمخدرات ثم يستعملون شاحنات الجيش الاسرائيلي لنقل المخدرات. وهذا يفسّر انتشار أسلحة الجيش الاسرائيلي - من مسدسات ورشاشات ومعدات - في لبنان للبيع، سواء تلك التي باعها أفراد من الجيش الإسرائيلي أو كميات الأسلحة الفردية التي سرقها عسكريون إسرائيليون من مخازن الجيش الاسرائيلي وذكرها روبرت فيسك.
لم يمضِ سوى أشهر على غزو إسرائيل للبنان عام 1982، حتى أخذت تقارير الشرطة الاسرائيلية تتحدّث عن كارثة غزو مخدرات. فقد أعلنت الشرطة الاسرائيلية أنّ سعر كيلوغرام الحشيش في إسرائيل هبط إلى النصف بعد فيضان السوق بالمخدرات اللبنانية. وكثُرت حوادث إلقاء القبض على ضباط وجنود اسرائيليين بالعشرات في أنحاء اسرائيل لحيازتهم كميات تجاوز كل منها بضعة لكيلوات من المخدرات الممنوعة، بهدف الاتجار بها، نقلوها إلى اسرائيل بالشاحنات والسيارات العسكرية. واستمرّ هذا الوضع حتى بعد انسحاب اسرائيل الجزئي من لبنان عام 1985.
أمّا حرب طرابلس من 1982 إلى 1985 فقد كانت في تجليّاتها صراعاً للسيطرة على مرفأ طرابلس وعلى تهريب المخدرات. وكان هدف المتقاتلين وفق تقارير الصحافة الغربية هو وضع اليد على مرفأ طرابلس وتجارة المخدرات المربحة إضافة إلى رسوم الاستيراد والتصدير وهي 80 ألف دولار في الشهر. فكان معظم السكان المحليين يعتبرون حرب طرابلس هي حرب عصابات وليست صراعاً طائفياً أو سياسياً".
أمّا الدور السوري فقد قيّمت الـ "سي آي إيه" وجهات غربية أخرى أنّ الجيش السوري لم يكن ضالعاً مباشرة في تجارة المخدرات، بل وقف على الحياد وفضّل ضبّاط سوريون فاسدون في لبنان الحصول على بعض المال بدل خوض معارك حربية مع الجماعات المدجّجة بالسلاح في البقاع والتي تحمي الحقول والمختبرات. كما اتُهم مصطفى طلاس، وزير الدفاع السوري منذ 1972 وحتى 2004، أنّه وقّع آلاف التصاريح لأفراد مشكوك في نياتهم الإجرامية للتجوّل بما يحملون في لبنان، لقاء رسم وصل إلى عشرة آلاف دولار للشخص، وبمعّدل ألف تصريح في السنة. وعلى سبيل المثال، وقّع طلاس على ألف تصريح عبور في شهر آب 1989 فقط، كما سهّل الحصول على سمات فيزا لمهرّبين. وكان طلاس يجمع أمواله في فرنسا مع ابنته ناهد، زوجة تاجر السلاح السعودي أكرم عجّة.
وفي التسعينيات من القرن العشرين وبعد أن انتهت حرب لبنان بموجب اتفاق الطائف، تعزّزت تجارة المخدرات، ووصلت سمعة لبنان إلى الحضيض كدولة مخدرات بامتياز، وأنّ مافيا لبنانية سورية، أعضاءها من كبار السياسيين والعسكريين في البلدين، جعلت من وادي البقاع مركزاً عالمياً ضخماً لزراعة وتصنيع وتوزيع وتصدير المخدرات في العالم، يستفيد من أرباحها كبار الشخصيات الفاسدة في البلدين. كما أنّ اسرائيل وفي فترة احتلالها لمدّة 22 سنة (1978-2000) استفادت من تجارة المخدرات اللبنانية وبخاصة بالتسهيلات التي قدّمتها في الأراضي التي كانت تحتلها وعبر مرافئها لتجّار المخدرات اللبنانيين بالتعاون مع الأجهزة الأمنية الاسرائيلية.
وظهرت تقارير عن ضلوع رفعت الأسد – شقيق الرئيس السوري حافظ الأسد – وفراس الأسد ابن رفعت، في تجارة المخدرات. وأنّ رفعت من 1976 إلى 1984 أمر "سرايا الدفاع" التي يقودها لتساعد في مهام نقل المخدرات في شاحناتها التي لا تختلف عن شاحنات الجيش السوري إلى مرافىء الكانتون المسيحي. وكذلك نقل لوردات المخدرات بطائرات الهليكوبتر إلى مرفأ حالات وأماكن أخرى في لبنان وإلى دمشق لتأدية أشغالهم. وكان مرفأ حالات شمال جونيه هو الأفخم والأحدث من بين المرافىء غير الشرعية. ولقد وصفت الأجهزة الأميركية مرفأ حالات انّه حديث وعميق ويستقبل سفناً تجارية، تحيط به شاليهات فخمة وجدران اسمنتية سميكة، ويحرسه مسلحون، وتُشاهد سيارات فخمة لنكولن ومرسيدس تدخله عبر بوابة الكترونية. وأنّه في هذا المرفأ يجري تحضير سفن شحن لنقل كميات من الحشيش والهيرويين. ويقوم اختصاصيون بإعادة دهن وتغيير أرقام تسجيل السفن وتبديل العلم الذي تحمله واستصدار أوراق تسجيل جديدة من بلدان مختلفة. وفوق المرفأ ثمّة رادار يراقب السماء والبحر ومهبط لطائرات الهليكوبتر التي كانت تنقل لوردات المخدرات من وإلى البقاع. ويضيف التقرير الأميركي أنّ عملاء المكافحة الأميركيين لم يصدّقوا أعينهم أنّ اللبنانيين قد تمكّنوا في وسط الحرب من بناء هذا المرفأ الحديث الذي يفوق مرفأ في ميامي حداثة وبتكلفة ملايين الدولارات. وأنّ رفعت أمر جماعة "الفرسان الحمر" التابعة له بالمساعدة في التهريب عبر مرفأ طرابلس. وكذلك أنّ الجنرال علي دوبا قائد المخابرات العسكرية السورية كان على صلة بآل جعفر وأنّه قبض أموالاً منهم، ولكن ليس للإثراء الشخصي بل لتأمين حاجيات عناصره في لبنان، وأنّ الجنرال غازي كنعان قائد المخابرات العسكرية في لبنان وفّر الحماية لتسعة مهرّبين رئيسيين وتدخّل دوماً في الصلحة بين سياسيين لبنانيين، وكان وراء فضيحة النائب يحيى شمص عام 1994. فقد كان يحيى شمص نائباً بدون انتخاب بموجب قرارات تعيين في برلمان لبنان أشرفت عليها سوريا عام 1992. ولكن ألقي القبض عليه بتهمة تجارة المخدرات بعد خلافه مع رئيس المخابرات السورية في لبنان غازي كنعان. وأمام المحكمة هدّد شمص بفضح لائحة طويلة من الشخصيات التي تشارك أيضاً في تجارة المخدرات. ومنهم روي الهراوي ابن رئيس الجمهورية الياس الهرواي. وصدر حكم بحق شمص السجن سبع سنوات ولكن لم تؤخذ أقواله حول ضلوع آخرين.
لبنان المصدِّر الأول للمخدرات في العالم
في العام 1987، ذكر تقرير للـ "سي آي إيه" أنّ نتاج عام 1986 من القنّب والخشخاش في لبنان كان الأضخم منذ بدأ إحصاء انتاج الحشيش هناك عام 1951، حيث غطّت البراعم البيضاء والحمراء مساحات شاسعة حتى الأفق في سهول بعلبك والهرمل. ولقد أصبحت بلدة دير الأحمر المارونية في قضاء بعلبك نقطة شراء المحاصيل، حيث كان يحضر المزارعون الشيعة ويقبضون المال فيها. ومن دير الأحمر تشحن الكميات عبر بلدة بشرّي ثم إلى قلب الكانتون المسيحي على الساحل. ومن هناك، توزّع عبر كانتون آل فرنجية شمالاً إلى مرفأ طرابلس وإلى مرفأي جونيه وجبيل تحت سيطرة القوات اللبنانية. ثم تقوم عناصر الميليشيا المسيحية بتوضيب أكياس الهيرويين في إطارات سيارات حيث ينقلونها في زوارق صغيرة إلى يخوت في وسط البحر، وهناك في اليخوت يقبضون حقائب مليئة بالدولارات الأميركية.
وكانت الأجهزة الأميركية تراقب نمو واتساع تجارة المخدرات اللبنانية في الثمانينيات بقلق كبير، بخاصة أنّها كانت مؤشراً تاريخياً كبيراً لتحوّل الضالعين بها عن هدف الربحية التجارية إلى خوض حروب وثورات وحركات تحرّر وتجّار أسلحة. وكذلك ضلوع سياسيين ومصرفيين وأصحاب أعمال وأحزاب سياسية يسارية ويمينية، مسيحية وإسلامية. حتى بات النموذج اللبناني في تجارة المخدرات وتشابكها مع أمور أخرى يحتذى به في بلدان أخرى حول العالم، وأثّر أيضاً على سياسة أميركا الخارجية في التعاطي مع التجارة الدولية في المخدرات الممنوعة، خصوصاً عندما كان الأمر يتعلّق بدولٍ أو جماعاتٍ أو شخصياتٍ تعمل لمصلحة أميركا.
وكانت أموال المخدرات وكميات الهيرويين والكوكايين تصل إلى أهدافها خارج لبنان عبر البوابات الرئيسية في أوروبا وأميركا. ولكن كان المهرّبون اللبنانيون يتبعون أحياناً خطوطاً خلفية لا يمكن تقفّيها، كأن يسافروا على متن طيران الشرق الأوسط "الميدل إيست" إلى بلدان غرب أفريقيا، كالسنغال وساحل العاج وليبريا والكاميرون ونيجيريا، حيث توجد جاليات لبنانية كبرى. وكذلك في شرق أفريقيا عبر مطاري نيروبي (كينيا) وآديس آبابا (أثيوبيا). ومن تلك المطارات الأفريقية كانوا يطيرون إلى أوروبا وأميركا.
صدر للدكتور كمال ديب كتاب "روجيه تمرز: امبراطورية انترا وحيتان المال في لبنان" عن المكتبة الشرقية بيروت. ويخص المؤلف "النهار" بمقطتفات من الفصلين 12 و15.