أمام هذه الصورة، تنبري الأسئلة التالية: كيف يمكن لهذه اليد أن تُرفع من الطريق؟ ومَن يستطيع أن يرفعها؟ وهل في مقدور أحدٍ ما في الداخل أن يرفع تلك اليد و«يزيحها» من الطريق، وينقل الحصان من خلف العربة الى أمامها، ويطلق عنانه نحو تأليف الحكومة؟
إجابات المستويات السياسية تحدّد هويّتها بشكل دقيق، وتتناقل أحاديث وروايات عمّا تفعله تلك اليد، سواءٌ تجاه مَن تصنّفهم في خانة الخصوم، أو تجاه المُصنّفين في خانة الأصدقاء والحلفاء التقليديين لها، ومَن تُصافح منهم، بودّ وحرارة واحتضان، ومَن تمارس عليهم «برودةً» ثقيلة، و«تعصر» يدَه بقوة شديدة وتُدخله في إحراج وإرباك لا يعرف كيف يخرج منهما!
سُئل أحد كبار المسؤولين: «ماذا يستفيدون من تعطيل الحكومة في لبنان»؟
أجاب: «هذا السؤال لا يلامس جوهر «دافعهم» التعطيلي، بل يجب أن يُصحَّح السؤال ليصبح على الشكل التالي: كم هو حجم الأضرار التي سيتكبّدونها من وجود حكومة في لبنان؟ وكيف يمكن أن يخفّفوا منها؟
في إحدى زوايا مطبخ التأليف الأساسية، قراءةٌ للواقع المعطّل، تجزم بأنه على سطح الأزمة تظهر يدٌ داخلية مُتهمةٌ بأنّها المعطّلة للحكومة، والكل يعلم، أنها مهما كبّرت حجرَها ونفخت حجمَها، لا تتمتع بقوة تمكّنها وحدها من تعطيل مسار التأليف، بل إنّ خلفها يداً أكبر منها، هي التي تدير دفّة التعطيل وتوحي، وما على اليد الداخلية سوى أن تنصاع وتنفّذ بلا اعتراض وتصرخ بشروط ومطالب لا حدودَ لها. وبالتأكيد أنّ خلف اليد التي توحي، يداً أكبر منها تمون عليها، وليست بالضرورة أنها هي صاحبة فكرة التعطيل، بل هي «مطنّشة» عليها وتتركها لشأنها لعلّها تحقق مرادها أو بعضاً منه.
بحسب هذه القراءة، فإنّ «اليد الخلفية تمارس اليوم لعبة تخفيف الأضرار، فقد بنوا آمالاً كبيرة على الانتخابات النيابية، لكنهم صُدموا بنتائجها، فبدل أن تكون نوعيةً كما أرادوها أو توقعوها، جاءت أكثر من مخيّبة، وأشبه بضربة قاسية على الرأس، إذ إنها رسمت خريطةً مجلسية جديدة محت الخريطة السابقة التي سادت منذ العام 2005.
كان من الطبيعي، كما تقول القراءة، أن يخلق الواقعُ الجديد شعوراً مزدوجاً بالخسارة والمرارة في آن معاً، خصوصاً بعدما اظهرت الجلسةُ الأولى للمجلس النيابي الجديد، اختلالاً واضحاً في الميزان المجلسي، بين أكثرية سابقة صارت أقلية، وأقلية سابقة صارت أكثرية، وتجلّى ذلك في تمكّن الأكثرية الجديدة من تحقيق أمرين مُستَفِزَّين للأقلية الجديدة:
- الأول، إخراج «القوات اللبنانية» من هيئة مكتب المجلس النيابي التي كان يشغل عضويّتَها النائبُ السابق انطوان زهرا، فحلّ مكانه عضو كتلة التيار الوطني الحر( لبنان القوي) النائب آلان عون.
- الثاني، انتخابُ الخصم السياسي للأقلية الجديدة النائب ايلي الفرزلي نائباً لرئيس المجلس النيابي.
من هنا، تأتّى شعورٌ بخشية وقلق كبيرَين من أنّ هذا المسار إذا ما استمرّ على هذا النحو الانحداري، فمعنى ذلك أنّ كلّ ما بُني منذ العام 2005 وحتى اليوم صار آيلاً للسقوط أمام أكثرية جديدة يحكمها الثأر والانتقام من كل الفترة التي حكمتها الأكثرية السابقة، وبالتالي صار الهمّ الأول والأساس للقلقين هو كيفية ردّ الضربة، وتعويض الخسارة التي ألحقتها بهم الخريطة المجلسية الجديدة، ومن هنا بادروا الى نقل المعركة الى حلبة التأليف لعلّهم يحققون ربحاً فيها، وإن تعذّر ذلك يحدّون من الأضرار والخسائر.
ومع تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة، كما تلحظ القراءة، أعطى القلقون فترة سماح للتأليف، وراهنوا على سلوكه مساراً مغايراً للمسار المجلسي الذي كشف أنّ الكلمة الفصل فيه هي لأكثريةٍ جديدة، لكنّ فترة السماح هذه بيّنت لهم أنّ هناك مَن يريد أن ينتهج المسار المجلسي نفسه، من خلال سعيه الى تركيبة حكومية ترجّح كفة فريق على فريق. وتجلّى ذلك في:
- عدم قدرة الرئيس المكلف على تمرير أيّ صيغة حكومية تنطوي على تعويض للخسارة إنْ من حيث عدد الوزراء، أو نوعيّة الحقائب له ولحلفائه القدامى والجدد على حدٍّ سواء.
- الطروحات و«الفيتوات» التي طرحها رئيس الجمهورية وفريقه السياسي، في ما سمِّيت حرب الحقائب والأحجام التي مازالت محتدِمةً حتى الآن.
- محاولات تقليص حجم تمثيل بعض الأطراف، وتنفيس نوعية هذا التمثيل كمثل انتزاع موقع نائب رئيس الحكومة من «القوات»، وانتزاع وزارة الصحة منها ومحاولة منح «القوات» حقائب تعتبرها «فارغة» ولا تعوّض حتى بعضاً من حجم تمثيلها في الحكومة السابقة.
- مبادرة «حزب الله» للمرة الأولى الى رفع تمثيله في الحكومة الى ثلاثة وزراء، وهي النسبة الأعلى التي يحصل عليها منذ اشتراكه للمرة الأولى في الحكومات، إذ إنه شارك للمرة الأولى في الحكومة في حكومة نجيب ميقاتي في نيسان 2005 وكانت حصتُه وزيراً واحداً، وفي حكومة فؤاد السنيورة في تموز 2005 كانت حصتُه وزيرَين، وفي حكومة سعد الحريري الأولى في تشرين الثاني 2009 كانت حصتُه وزيرَين، وفي حكومة نجيب ميقاتي في تموز 2011 كانت حصتُه وزيرَين، وفي حكومة تمام سلام في شباط 2014 كانت حصةُ الحزب وزيرَين، وفي حكومة الحريري الحالية (حكومة تصريف الأعمال) كانت حصةُ الحزب وزيرَين.
فبالإضافة الى الوزراء الثلاثة طلب وزارة الصحة، وتقرّر إسنادها اليه.
قرأ القلقون في هذا الامر، أنّ الحزب، بحصوله على ثلاثة وزراء في الحكومة، وكذلك بحصوله على وزارة خدماتية مهمة كوزارة الصحة، وكذلك في ممارسته ضغطاً غيرَ معلن حتى الآن لتمثيل سنّة المعارضة في الحكومة، ويبدو أنه اتّخذ قراراً بخوض معركة تحت هذا العنوان. فإنه، أي الحزب، يوجّه من خلال ذلك رسالة الى الداخل والخارج تفيد بأنه انتصر، وأنه يثمر انتصاره في الحكومة في ظلّ التركيبة الجديدة للمجلس النيابي.
تنقل تلك القراءة «كلاماً قلقاً» أسرّ به أحد السفراء لبعض الاصدقاء اللبنانيين، يعبّر فيه من جهة، عن ضيق من «الطريقة التي يعتمدها رئيس الجمهورية في تشكيل الحكومة، حيث إن نجح في فرض مشيئته وتشكلت الحكومة بالشكل الذي يريده، فهذا أمر لا يبشّر». ويعبّر من جهة ثانية عن قلق من «حزب الله» الذي أُعطي 3 وزراء في الحكومة بينها وزارات مهمة جداً، ومحصّن نفسه برئيس للجمهورية مؤيّد له، وبأكثرية 74 أو 75 نائباً في المجلس النيابي، وبحصة وزارية تصل الى أكثر من نصف الحكومة له ولحلفائه مع الحقائب الأساسية لهم، فإن تشكّلت حكومة من هذا النوع فمعنى ذلك أنها تهيّئ سبل الاستقرار اللازمة لكي يحكم «حزب الله» بشكل أكبر». وبناءً على ذلك، أطلق السفير المذكور، وبحسب الكلام المنسوب اليه جملةً بالغة الدلالة: «إنّ تشكيل الحكومة في لبنان ليس أولويةً بالنسبة لنا».
من هنا، تضيف القراءة، كانت المسارَعة الى وضع عصا غليظة في عجلات التأليف، للحؤول دون تلقّي ضربةٍ ثانية على الرأس نفسِه، ولا يبدو أنّ ثمّة توجّهاً حتى الآن لسحب تلك العصا من عجلات التأليف. خصوصاً في ظلّ ما يعتبره القلقون منطق الغلبة الذي يريد أن يفرضه عون وفريقه ومن خلفه «حزب الله» على الواقع الحكومي. وربطاً بذلك فإنّ سيلَ النصائح التي أُسديت الى «الأصدقاء» بمنع سريان هذا المنطق.
ولعلّ أهم تلك النصائح، وقد صارت متداوَلة، هي أنه «لا بدّ من إرضاء «القوات»، ومعنى ذلك أن لا حكومة في لبنان الى أن ترضى «القوات»، وحتى الآن لم ترضَ «القوات» وما زالت على سقف شروطها العالي. تقف جنباً الى جنب مع الحزب التقدمي الاشتراكي في حربه التي يخوضها لإثبات وجوده وحصر التمثيل الدرزي في الحكومة به، وواضح أيضاً أنّ الإشتراكي ليس في وارد التراجع حتى الآن. علماً أنّ وليد جنبلاط لا يقفل الأبواب أمام مخرج أو حلٍّ وسط، لكنّ الأهم بالنسبة اليه ليس فقط المخرج ومضمونه، بل مَن هو الموثوق من قبله الذي سيقدّم له هذا المخرج؟
ماذا يعني ذلك؟
هذا يعني، في رأي صاحب القراءة، أن لا حكومة، لا خلال شهر، ولا خلال شهرين، وربما أكثر من ذلك بكثير، إلّا إذا برزت عناصر أو عوامل جديدة، فرضت على المعطلين بالدرجة الأولى الإقرار ولو متأخرين بأنّ التعطيل ومهما طال أمدُه لن يؤدّي الى نتائج إيجابية بالنسبة اليهم ولن يغيّر في واقع الحال شيئاً.
ما هي تلك العوامل؟
يقول، ثمّة مَن راهن على دورٍ فرنسيّ أو وساطةٍ فرنسية لبلورة حلٍّ ما، فلا الفرنسيون ولا غيرهم من الأوروبيين قادرون على فعل شيء، وحدهم الأميركيون يستطيعون أن يقولوا كن فيكون ويضعون حصان التأليف أمام العربة ويُركِّبون الجميع فيها وفي مقدمهم الحلفاء والاصدقاء الصغار والكبار، ولكن يبدو أنّ الوقت لم يحن للخروج من حال «التطنيش» الذي يمارسونه حيال لبنان منذ فترة طويلة.