مع الثورات العربيّة، انفجر الحديث عن عبادة الشخصيّة وعن التوريث الجمهوريّ الذي سبقنا إليه عالميّاً الكوريّ الشماليّ كيم إيل سونغ، وكان حافظ الأسد السبّاق إليه في العالم العربيّ. فصدّام حسين، قبل الثورات، كان الرئيس – الضرورة الذي حفّ اسمه بتوريث أحد نجليه، وهو الصيت الذي حفّ أيضاً بمعمّر القذّافي وحسني مبارك وزين العابدين بن علي وعلي عبدالله صالح. والصيت كان معزّزاً دائماً بالقرائن.
روبرت أوين وجوزيف ساسّون وآخرون ممّن اهتمّوا بدرس العالم العربيّ توقّفوا عند الأسباب التي أملت الظاهرة هذه. فمعظم هذه البلدان استقلّت حديثاً نسبيّاً فـ «حلّ» قادتها مشكلة ضعفها المؤسّسيّ بعبادة الفرد – الزعيم. ومعظم هؤلاء القادة جاؤوا من الجيوش، وهي مؤسّسات أمر وطاعة لا تكترث لإرادة السكّان إلا قليلاً. ومعظم تلك الدول كانت مهمّة استراتيجيّاً في زمن الحرب الباردة، ما جعل تثبيت أنظمتها شرطاً لتثبيت موقعها في الاستقطاب الدوليّ بين الجبّارين. وكلّ تلك الأنظمة، ما عدا التونسيّ، اندرجت في حروب مع إسرائيل أو إيران أو التشاد أو في الداخل، كما حال اليمن، والحروبُ تستدعي الزعيم وإطلاق يده. أمّا في حالتي عراق صدّام وليبيا القذّافي، فتضامنت الرشوة التي تأدّت عن الثراء النفطيّ مع استبداد المستبدّ وامتلاكه البلد والتفكير، تالياً، في توريثه.
هذه الظاهرة انتكست اليوم، خصوصاً وقد لمسنا المصائر التي انتهى إليها أصحاب تلك المحاولات: قتل فظيع، نفي، سجن... أمّا الذين يحاولون تكرارها فيلوح الترهّل والكاريكاتوريّة سمةً ملازمة لمحاولاتهم. فالذين يقدّمون أنفسهم مخلّصين، وكذلك الذين يتمّ تصويرهم منتصرين (وهم انتصروا بفعل تدخّل أجنبيّ) لن تستقيم محاولاتهم تأسيس عبادة جديدة لأشخاصهم، عبادةٍ يتوّجها توريث الأبناء.
وهذا خبر جيّد وسيّئ في الآن ذاته: الجيّد فيه هو ما فعلته الثورات، على رغم هزيمتها، إذ أنشأت مناخاً طارداً لعبادة الشخصيّة والتوريث، لا سيّما أنها حُطّمت تماثيل وديست صور وانتُهكت «مقدّسات». أمّا السيّئ فما فعله تحالف الثورات المضادّة والتفتّت الاجتماعيّ، حيث انتهينا إلى وضع لا يستقيم شيء فيه: لا عبادة الشخص ولا تأسيس العالم الديموقراطيّ المجرّد واللاشخصيّ.
حالة نوري المالكي قد تكون دالّة ومعبّرة هنا. فزعيم «حزب الدعوة» ورئيس حكومة العراق لثماني سنوات، حاول أن يستعيد عبادة الشخصيّة في قالب انتخابيّ، حتّى شاعت مقارنته بصدّام حسين وقدّمه البعض كصدّام معكوس. لقد عزّز أجهزة وقوى موازية، ونفّع وأفسد مقرّبين، وصلّب نواة سلطويّة تابعة له وعصيّة على الرقابة. لكنّ النظام الانتخابيّ، على كلّ عيوبه في العراق، فعل ما فعلته الثورات في البلدان العربيّة الأخرى: هكذا حمى العراقيّين من سلطان المالكي وتفرّده، إلاّ أنّه، مع هذا، ساهم في صنع عراق لا يستقيم فيه، حتّى إشعار آخر، مطلق شيء. وليس قليل الدلالة على التقاء التيّارين هذين في العراق، وفي تجربة المالكي تحديداً، أنّ الأخير أراد انتزاع الزعامة الوطنيّة بلغة طائفيّة صريحة. هذا ما جعل الزعيم زعيماً أقلّ فيما كان يجعل الوطن وطناً أقلّ.