كانوا يسمونها "فينيسيا الشرق الأوسط"؛ إذ كانت تتميز بقنواتها المائية وبيوتها العتيقة وثراء تجارها وحلاوة العيش فيها، لكن البصرة اليوم مريضة بالمياه الملوثة والبؤس والشعور بالخذلان، حسب تقرير بموقع إخباري فرنسي.
فقد غابت عنها الخدمات العامة، وتحولت شوارعها إلى مكبات للنفايات، وجفت قنواتها وتلوثت مياهها، واختنق سكانها بالتلوث النفطي، وانتشرت البطالة بينهم، فوهنوا ومرض عشرات الآلاف منهم.
"إنه الجحيم" كما يصفه عالم الأنثروبولوجيا العراقي الباحث في المعهد الفرنسي للبحث العلمي هشام داود؛ فالبصرة ذات الثلاثة ملايين نسمة تحولت إلى "فضاء ضخم للقمامة لا يمكن وصفه".
ونتيجة لهذا الوضع المزري، خرج سكان هذه المحافظة، التي تمد العراق بنسبة 70% من إنتاجه النفطي، في احتجاجات عفوية عبروا فيها عن غضبهم من فساد الحكومة والمليشيات ومن إيران، وجعلوا الجميع مسؤولا عن مأساتهم.
فسكان هذه المحافظة لا يحصلون إلا على فتات ما ينتج في أرضهم من النفط، وفي المقابل يمتصون التلوث الناتج عنه، كما يتضح من انتشار السرطانات في هذه المحافظة بشكل أكبر بكثير من بقية محافظات العراق.
أهل البصرة يحسون بالضيم وهم الذين جُند شبابهم ليكون وقود الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، ولم يحصلوا على أي شيء مقابل ذلك، بل لا يزالون تحت رحمة مليشيات شيعية يرجع صعودها إلى السلطة -إلى حد كبير- إلى بريطانيا التي تولت إدارة المدينة بعد الغزو الأميركي عام 2003، إذ عمدت لندن إلى شراء الاستقرار في هذه المنطقة من خلال تمويلات هائلة لشركات محلية وهمية.
ولم يسلم من غضب المحتجين إلا التيار الصدري غير الموالي لإيران ومرجعية النجف بزعامة آية الله السيستاني التي تعتبر نفسها مستقلة عن طهران، والتي ساندت هذه الاحتجاجات منذ بدايتها في يوليو/تموز الماضي.
ولا شك أن المشاكل الصحية لعبت دورا بارزا في دفع سكان البصرة إلى الاحتجاج، ويمكن تلخيص سببها في كلمات: "البصرة تموت عطشا"، وفقا لما جاء في تقرير جان بيير برين بميديابارت.
العطش
من الواضح أن المياه غدت نادرة بالبصرة؛ فالأراضي التي كانت مزروعة بالخضراوات حول المدينة اختفت، كما اندثر جزء كبير من بساتين النخيل التي تضفي على هذه المدينة جمالها، وما هو موجود من المياه ملوث بالمنتجات السامة التي تلقيها الصناعات في نهري دجلة والفرات.
كما ارتفع مؤشر الملوحة، وهو أحد الجراح طويلة الأمد في المنطقة إلى 12 ميلغرام لليتر مقابل 1 إلى 1.5 ميلغرام في الأوقات العادية، وبدأت محطات معالجة مياه الصرف الصحي تترنح، وأحصت وزارة الصحة في البصرة أكثر من 17 ألف مريض دخلوا المستشفيات في جزء فقط من أغسطس/آب الماضي، جميعهم كانوا يشربون مياه الصنبور لأنهم لا يستطيعون شراء المياه المعدنية.
وإذا كانت الملوحة قد تفاقمت، فإن السبب في ذلك هو صعود البحر لمسافة أربعين كيلومترًا في شط العرب، الذي هو المصب المشترك لنهري دجلة والفرات، ولأن تدفق هذين النهرين انخفض أيضا بشكل كبير.
ويعود ذلك إلى السدود التي أقامتها تركيا وإيران، وتحويل مياه نهر الكارون، المؤدي إلى شط العرب، لصالح نهر إيراني آخر، هو زايندة رود الذي جف كليا بسبب إدارة إيران السيئة للمياه.
الفدرالية أو الانفصال
كما يحس سكان البصرة بالغضب من اختلاس الأموال العامة لصالح الأحزاب السياسية والمليشيات التي تسيطر عليها طهران، ويضاف إلى ذلك ما قامت به إيران من قطع الكهرباء عن أهم خط يوصل الكهرباء للمنطقة، وذلك في عز الصيف والحر، مما تسبب في كارثة في الأحياء الفقيرة من هذه المدينة، وذلك بحجة تأخر الحكومة العراقية عن سداد مبالغ مستحقة عليها.
ورغم حنق المحتجين عليها، فإن إيران قد تحول بدهائها السياسي حرق قنصليتها في البصرة إلى نصر سياسي، لكن يبدو أن أهل البصرة لم يعودوا مهتمين بذلك؛ إذ يحس الكثير منهم بأن الحبل السري الذي كان يربطهم ببغداد قد انقطع.
وهم اليوم ينتظرون بفارغ الصبر تطبيق نظام الفدرالية كي يتمكنوا من إدارة محافظتهم كما يفعل الأكراد في شمال العراق، بل إن بعضهم يدعو للانفصال نهائيا عن بغداد، خاصة أن محافظة البصرة لم تنضم إلى العراق إلا خلال الحقبة الاستعمارية البريطانية، بالتحديد عام 1921.