لا علاقة لصناعة المخدرات في لبنان بأزمنة الحرب والسلم بل هي قطاع معروف وظاهر، ولكن ثمّة اتفاقاً غير مكتوب أن لا يؤتى على ذكره ويتندّر الخبراء الإشارة إليه على أنّه القطاع غير المنظور الذي يصحّح عجز ميزان المدفوعات اللبناني عبر العقود. وهذه الصناعة كانت "بترول لبنان" لعدّة سنوات أثناء الحرب اللبنانية نظراً لإيراداتها المالية التي كانت تراوح بين مليار وأربعة مليارات دولار في السنة.
بلاد التين والزيتون و... الحشيش
على رغم مساحته الصغيرة، أصبح لبنان منذ خمسينيات القرن العشرين مصدراً دوليّاً في صناعة وتجارة المخدرات الممنوعة، بكميات كانت تصدم سلطات مكافحة المخدرات في الولايات المتحدة والدول الغربية.
وتجارة المخدرات كان لها دور إيجابي على الصعيد المعيشي، حيث عمّت البحبوحة منطقة بعلبك – الهرمل خصوصاً، ولكن استفادت مناطق لبنانية أخرى من طفرة المخدرات المالية وشاركت في تجارة المخدرات شخصيات سياسية ونيابية واجتماعية بارزة. وفي زمن الوجود العسكري السوري، بقيت زراعة المخدرات ناشطة، واستفاد عدد كبير من المسؤولين الأمنيين السوريين واللبنانيين من هدايا المهرّبين وتقديماتهم، لقاء توفير التغطية الأمنية.
الحرب اللبنانية وسنوات الفوضى والفلتان الأمني، شكّلت للمزارعين فرصة ذهبية، فتوسّعت زراعة الحشيشة، ومعها توسّعت زراعة الأفيون. وأصبحت هناك طرقات خاصة يعتمدها المهربون لتهريب البضاعة إلى دول أوروبية، وكان لـلميليشيات دورها في تسهيل مرور المخدرات، سواء عبر مطار بيروت أو المرافئ البحرية التي باتت خارج سلطة الشرعية. وكانت أسواق التهريب موزعة على عدد من الدول الأوروبية والأميركية، وتشارك فيها عصابات منظّمة لبنانية وأجنبية. وشملت خطوط التهريب إسرائيل، ومنها إلى مصر عبر الشريط الحدودي وميليشيا "جيش لبنان الجنوبي" وبتواطؤ ضباط في الجيش الإسرائيلي. أما في سنوات عزم الدولة على مكافحة الزراعة وهي قليلة، فقد كانت الأجهزة الأمنية تقوم في أشهر الصيف وقبل حلول موسم قطاف الحشيش بحملات إتلاف مساحات كبيرة قُدرت بنحو عشرين ألف دونم. ولكن كلّما كانت الحملات كبيرة وجدية، تعرّضت القوى الأمنية لإطلاق رصاص وقذائف صاروخية ومقاومة شديدة من المزارعين والمهرّبين. أمّا الحملات الصغيرة فيكون متّفقاً عليها مسبقاً حيث تؤخذ الصور وتُكتب التقارير ويتمّ توقيف بعض الأشخاص.
رأى البعض أنّ زراعة المخدرات نمت في لبنان نتيجة الحرمان الذي استوطن شمال البقاع منذ أيام الانتداب الفرنسي حتى يومنا هذا. وازداد الحرمان نتيجة فشل الحكومات اللبنانية المتعاقبة في القضاء على مظاهر البؤس والإهمال الرسمي المتعمّد، وابتعاد نواب المنطقة الدائم عن دورهم الحقيقي رغم وعودهم المعسولة في المجالات الإنمائية التي تحملها بياناتهم الانتخابية عشية كل انتخابات.
للموقع الجغرافي لمنطقة بعلبك – الهرمل في أقصى الشمال دور في توجّه معظم سكان تلك المنطقة نحو الزراعات الممنوعة، كما أن وقوع تلك المنطقة على الحدود اللبنانية – السورية جعلها منطلقاً لعمليات التهريب بين البلدين. وبدأت هذه الزراعة عام 1927 في جرود بلدة عيناتا في قضاء بعلبك، ثم تطورت لتغزو جرود الهرمل وكافة قرى القضاء، كما انتشرت في قرى جبال لبنان الشرقية بعيداً من أنظار السلطات في تلك الأيام. وظل الحال على هذا المنوال، حتى قيام دولة الاستقلال عام 1943 التي أصدرت قوانين تحظر هذه الزراعة وتحاول القضاء عليها.
منذ مطلع الانتداب الفرنسي في العشرينيات من القرن العشرين، انتشرت زراعة القنّب الهندي في لبنان إلى جانب التبغ الذي كانت تشتريه مصانع السجائر في مدينة ليون في فرنسا.
خمّنت تقارير السلطات اللبنانية أنّ الاقتصاد اللبناني في فترة الانتداب الفرنسي من 1920 إلى 1946 كان يستند إلى انتاج الحشيش بنسبة 50 في المئة، وأنّ سهل البقاع أنتج عام 1928 ستين طنّاً من الحشيش، تمّ تصدير ما نسبته 90 في المئة منه إلى السوق المصري كل عام. وإذ عجزت عن ضبط تهريب الحشيش اللبناني إلى أراضيها طوال الثلاثينيات، شكت الحكومة المصرية عام 1940 من غزو المخدرات اللبنانية لشوارع القاهرة والاسكندرية. ذلك أنّ الطريق من لبنان إلى مصر كانت مفتوحة برّاً في زمن الانتداب. فكان المهربون ينقلون عبوات الحشيش في الزوارق وسيارات الشحن وظهور الجمال التي يركبها البدو. فتجتاز فلسطين وتدخل مصر بتسهيلات من عناصر الجمارك والشرطة في مصر. وكذلك كانت عناصر من الجيش البريطاني في فلسطين ومصر تقبض ثمن تعاونها كمية من الحشيش ومبلغاً من المال.
وكان الشحن إلى خارج لبنان وعبر سوريا يتم أيضاً بتسهيلات من عناصر الأمن العام اللبناني وعناصر فرنسية في إدارة الانتداب والجيش الفرنسي في لبنان وسوريا، لقاء المال. حتى إنّ بعضهم كان ينقل المخدرات في السيارات الرسمية العسكرية والمدنية. ومَن لم يكن ضالعاً في تجارة المخدرات مباشرة من رجال السياسة فقد كان يسكت عنها لأنّه اعتبر أنّها تساعد الفلاح اللبناني ضد الفقر (أي كان موقفه مبنياً على الشفقة على أوضاع الناس). وعلى سبيل المثال كان هذا الموقف هو لسان حال رأي ريمون إدّه في حديث إلى مسؤول انتدابي فرنسي عام 1939: "نحن لا نفهم لماذا يمنع المفوّض السامي زراعة الحشيش مع أنّها مصدر عيش لأهالينا في القرى"؟
تجارة المخدرات في الثمانينيات
التموضع الاقتصادي في زمن الحرب كان ميثاقاً غير مكتوبٍ بين ميليشيات قوى الأمر الواقع في لبنان والطبقة السياسية والعسكريين ورجال المال والأعمال وجهات نافذة في سوريا واسرائيل ودول أخرى، في أن يتعاون الجميع لتأمين انتاج المخدرات وخروجها من الأراضي اللبنانية للتصدير.
وفي هذا الإطار أيضاً، دخلت كل التجارات الممنوعة واستيراد البضائع على أنواعها إلى لبنان عبر مرافىء غير شرعية على طول الساحل اللبناني دون رادع. إذ إضافة إلى قيام الجماعات اللبنانية والفلسطينية بوضع اليد بعد تدهور الدولة على المرافىء الشرعية – طرابلس وجونيه وبيروت وصيدا وصور – نشأت مرافىء خاصة بالميليشيات وبحركة فتح الفلسطينية. وكانت المافيا الإيطالية وعصابات تهريب أوروبية تؤمّن وصول شحنات أسلحة إلى لبنان مقابل شحنات المخدرات اللبنانية عبر هذه المرافىء.
وازدهرت تجارة المخدرات في الثمانينيات بعد تراجع النشاط الاقتصادي الشرعي وسعي الميليشيات إلى موارد مالية وسهولة اقتناء مرفأ بحري أو أكثر وفلتان الأمن في مطار بيروت في الفترات التي كان يعاد فتحه في الحرب، وضلوع سوريا واسرائيل في هذه التجارة وتسهيل أمور التجار والمزارعين. حتى إنّ آلاف المزارعين استفادوا من تصدير الحشيش والهيرويين لتعزيز أوضاعهم المتدهورة بسبب الحرب. فازدهرت قرى وبلدات شمال البقاع وشهدت نمّواً ملحوظاً في حين شهدت مناطق لبنان الأخرى كساداً اقتصادياً غير مسبوق. وتعاونت الميليشيات المتقاتلة سياسياً في إدارة هذه التجارة التي جلبت إليها عشرات ملايين الدولارات كل شهر، فتشتري السلاح وتدفع أجور المقاتلين وتُنفق على لائحة طويلة من الحاجيات الإعلامية والمكاتب والمؤسسات، كل في منطقته.
انتشرت المرافئ غير الشرعية على طول الساحل اللبناني. حتى إنّ مرافىء الميليشيات العديدة كانت مجهّزة بمعدّات لتحميل المراكب وتفريغها. وأصبح التجّار يفضّلون إدخال بضائعهم عبر مرافىء الميليشيات نظراً لتدّني رسومها. ولقد بلغت خسارة الدولة من رسوم جمركية فائتة على بضائع عبر المرافىء غير الشرعية 50 مليون دولار شهرياً. جنوب بيروت وُلد مرفأي خلدة والجيّة بعدما أعلنت الميليشيا الدرزية الإدارة المدنية في الجبل عام 1984 إسوة بالكانتون المسيحي. ولكن أي مرافىء جنوب بيروت لم تكن مربحة كمثيلتها على ساحل الكانتون المسيحي شمال بيروت، الذي احتكر أهم المرافىء وبخاصة أحواض مرفأ بيروت.
لحظ تقرير لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي إيه" في تشرين الأول 1985 أنّ الاقتصاد اللبناني قد تقلّص إلى النصف بعد الاجتياح الاسرائيلي عام 1982 وأنّ انهيار القطاعات المنتجة في الثمانينيات قد أنعش قطاعات بديلة وأبرزها تجارة المخدرات إلى درجات غير مسبوقة. ويضيف التقرير أنّ مردود هذه التجارة سنوياً بلغ مليار دولار وأنّها مع الصناعات الرديفة التي تدعمها باتت تساهم بنسبة 50 في المئة من الناتج القومي اللبناني. كما جاء في تقرير للجنة في الكونغرس حول استهلاك المخدرات في الولايات المحدة أنّ لبنان بات مصدر 60 في المئة من الانتاج العالمي للحشيش و30 في المئة من صادرات الولايات المتحدة للمخدرات. كما أنّ مساحة زراعة الخشخاش في البقاع قد ارتفعت من ألف دونم عام 1979 إلى ستّة آلاف دونم عام 1985، وأنّ المختبرات اللبنانية تستورد المواد الأفيونية من دول آسيوية وتصنّعها إلى مخدرات وتصدّرها إلى أوروبا وأميركا. وكذلك يستورد لبنان كميات كبيرة من مادة الكوكا من أميركا اللاتينية لإنتاج الكوكايين.
ومن العمليات المعقّدة في الثمانينات أنّ ميليشيا "الكونترا "التي دعمتها الـ "سي آي إيه" ضد حكومة الساندينو اليسارية في نيكاراغوا، قد صدّرت كميات من مادة الكوكا إلى لبنان. ولم يكن هذا ممكناً بدون علم السلطات الأميركية. وبالمقابل أمّن مهرّبون لبنانيون وصول أسلحة إلى الكونترا، وكل هذا بإشراف وتسهيل المخابرات الأميركية. وبعد نجاح هذا التبادل، أخذ المهرّبون اللبنانيون يعمّمون تجربة "السلاح مقابل الكوكا" إلى بوليفيا والبرازيا وكولومبيا والباراغوي، وكذلك شراء شحنات من الكوكايين الكولومبي مقابل السلاح وشحنه مباشرة للإستهلاك في السعودية ودول الخليج.
وكانت دراسة للكونغرس عام 1987 قد كشفت أنّ المهرّبين اللبنانيين يفضّلون الهيرويين لأنّه أكثف وأعلى ثمناً بكثير من عبوات الحشيش، ذلك أنّ شحنة من بضعة كيلوغرامات من الهيرويين تجلب أرباحاً أكثر بكثير من شحنة مئة كيلوغرام من الحشيش، وأنّ ما تبقّى من أجهزة الدولة اللبنانية بات يشارك في تسهيل التهريب، وأنّه لا أمل للولايات المتحدة في وقف غزو المخدرات اللبنانية إلا إذا سعيت لإنهاء الحرب في لبنان والمساهمة في بناء الدولة هناك. وكذلك فإنّ هذه الصناعة كانت تتمتّع بحماية دائمة وقديمة من الطبقة السياسية ومن قادة الميليشيات.
وقيّم مكتب المخدرات في وزارة الخارجية الأميركية أوضاع لبنان عام 1985 في تقريره للعام 1986 وذكر كيف فشل التدخّل الأميركي في تعويم حكم أمين الجميّل عامي 1982 و1983 وأنّ سلطة الجميل قد انحصرت في بضعة كيلومترات في الثمانينيات، وبدل أن يمارس الحكم، غرق في صراعات داخلية. وأنّ لبنان قد تحوّل في عهد الجميّل إلى غيتوات منفصلة تبدو فوضوية للمراقب الخارجي. غير أنّ حقيقة الأمر أنّ أمراء الحرب يتعاونون بشكل منظّم وفعّال في تسهيل تجارة وزراعة وصناعة المخدرات، حيث "يدفع المهرّبون الجبايات لحواجز الميليشيات ويصدّرون شحناتهم عبر عشرة مرافىء تعمل بانتظام على طول الساحل اللبناني، وحتى عبر مطاري بيروت ودمشق".
صدر للدكتور كمال ديب كتاب "روجيه تمرز: امبراطورية انترا وحيتان المال في لبنان" عن المكتبة الشرقية بيروت. وخص المؤلف "النهار" بمقطتفات من الفصلين 12 و15.