يوم السبت الماضي، 15 سبتمبر، حلت الذكرى الحادية عشرة لليوم العالمي للديمقراطية لهذا العام. وفي نفس اليوم الذي احتفل فيه العالم بالديمقراطية داعيا إلى تأصيلها وتعميقها ونشرها لتحمي البشرية من جرائم الدكتاتوريات، تتلقى الديمقراطية في البرلمان العراقي أبشع التجاوزات وأقسى الإهانات، وتُشوّه قيمها ومبادئها وثقافتها، وتُزور على مرأىً من الولايات المتحدة والأمم المتحدة وأوروبا ومسمعها، وأمام أعين المرجعية والقضاء العراقي الذي عوَّدَنا على أن لا يرى إلا ما يُراد له أن يرى، وأن لا يسمع إلا ما يُؤمر به أن يَسمع. ولقد مرت هذه الجريمة بهدوء، وكأن ما جرى كان أمرا عاديا ليس فيه غرابة ولا استثناء، وليس عدوانا على الديمقراطية والدستور والقانون.
فانتخاب محمد الحلبوسي، بالطريقة التي تم بها، واللغط الذي أحيط بحدث مثلُه عشرات المرات في العراق الجديد منذ أن نصَّب الأميركيون إيران ملكة على العراق قبل خمس عشرة سنة، وما يزالون يُهادنونها، ويتجنبون إغضابها أو إزعاج وكلائها العراقيين، حتى وإن هددوا مصالحهم، لا في العراق وحسب، بل في المنطقة بأسرها.
فالذي حدث أن أول من هنّأ محمد الحلبوسي بفوزه بمنصب رئاسة البرلمان، بعد إيران، كانت الولايات المتحدة. ثم تبعتهما الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي رغم أن الدنيا كلها قرأت وسمعت شهاداتٍ خطيرةً أدلى بها نواب ووزراء حاليون وسابقون تقول إن الحلبوسي أنفق من أجل الفوز بالمنصب مبلغا كبيرا قدّروه بثلاثين مليون دولار، وإن رؤساء الميليشيات الموالية لإيران مارسوا الإرهاب الحقيقي داخل البرلمان، علنا، ودون خوف ولا حياء، من أجل تحقيق ذلك الفوز.
وطبيعي، وبالعقل والحساب التجاري البسيط، يصبح من حق المواطنين العراقيين أن يتكهنوا بأن هذه الأموال التي هي طائلة في حسابهم، وزهيدة في حساب محمد الحلبوسي، سوف تعود إليه كاملة مع أرباحها وفوائدها المضاعفة، وذلك من رواتبه ومخصصاته الإضافية، وحدها، وليس بالصفقات والعمولات وتجارة إغلاق الملفات.
إذن فإن الآمال التي عقدها المتظاهرون العراقيون على الولايات المتحدة والمرجعية والقضاء العراقي بتأييد مطالبهم، ومنع الحرس الفاسد القديم من الاستمرار في احتكار السلطة، قد ذهبت أدراج الرياح، وعاد كل شيء إلى سابق عهده، والوجوه المملة الكريهة ذاتُها لم تغادر شاشات التلفزيون.
والأمر الغريب الأول أن إيران، ممثَّلة بأهم وكلائها وأكثرهم صلافة ووقاحة، مارست تدخلها في الشأن الوطني العراقي علنا وبصراحة، ودون غطاء ولا تقية ولا رياء، من أجل ضمان إيرانية البرلمان العراقي الجديد، وقد تحقق لها ما أرادت وزيادة.
أما الأمر الغريب الثاني فهو أن الناطقة باسم وزارة الخارجية الأميركية لم تسارع، بعد إيران مباشرة، إلى تهنئة الحلبوسي فقط، بل إلى الإشادة به وبخدماته السابقة، ومشاركته المخلصة في دعم مشاريعها في الأنبار، منوّهةً بأن قوات الاحتلال هي التي دعمته وساعدته على الوصول لمنصب محافظ الأنبار ضمن مجموعة أولاد الكرابلة الأكثر انحيازا وإخلاصا وتبعية لإيران بين سنة الحكومة، رغم أن الولايات المتحدة ومعها أوروبا، تعلم، قبل غيرها وأكثر من غيرها، بأن ما جرى في العراق يوم السبت الماضي لم يكن فقط ذبحا للديمقراطية، وتمثيلا بجثتها، بل هو انتصار فاضح لدكتاتورية الإرهاب الإيراني على ديمقراطية الولايات المتحدة وحلفائها، وإهانة للقضاء العراقي، وترسيخ للفساد، وتثبيت لسطوة الفاسدين، وتمزيق لوحدة الشعب العراقي، وتشريع لدولة الميليشيات وهيمنتها الكاملة على الوطن وأهله ربما في عشراتٍ مقبلة من السنين.
فبعد سقوط البرلمان، كاملا، في قبضة قاسم سليماني أصبح في حكم المؤكد أن يكون رئيس الوزراء القادم أشد طواعية وانقيادا لإيران ونفعا وخدمةً لها من حيدر العبادي وأخويه اللذين سبقاه في الرئاسة، نوري المالكي وابراهيم الجعفري، خصوصا في محنتها المالية والنفطية الراهنة وما ستجره عليها من مآزق ومصائب وأزمات.
وللبرهنة على حجم الانهيار القيمي والقانوني في العراقي خرج علينا القيادي في ميليشيا كتائب حزب الله العراقي، أبوطالب السعيدي، مهددا، بصراحة بلغت حد الوقاحة، بإسقاط عرش رئيس الحكومة العراقية المقبلة إذا لم يحترم دماء “المجاهدين”.
أما رئاسة الجمهورية فلن تكون أفضل من رئاسة البرلمان والحكومة. إذ إنها لا بد أن تكون، هي الأخرى، إدارةً ملحقة بالحشد الشعبي تُعطى ترضية لأحد قادة الاتحاد الوطني الكردستاني أو الحزب الديمقراطي الكردستاني، بشرط موافقته على أن يكون رئيسا بلا رئاسة، وعلى أن لا ينشغل بغير السعي إلى انتزاع أقصى ما يمكن من مكاسب، له شخصيا أولا، ولأسرته ثانيا، ولحزبه ثالثا، ولشعبه الكردي أخيرا، إذا ما بقي له ما يُعطى. ولنا في الرئيسين، الأول والثاني، أسوة وعبرة لمن يعتبر.
ألم تسمعوا آخر تصريحات المالكي الذي قال إنه “في ظل الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد، وفى ظل استقطابات وتدخلات إقليمية وخارجية وفتن تستهدف وحدة العراق وشعبه، نجد من المهم أن يقف الإخوة (الشركاء) في العملية السياسية موحدين متكاتفين لإفشال تلك المخططات التي ظهرت معالمها نتيجة الأزمة السياسية والاقتصادية التي تواجهنا في المرحلة الراهنة”؟
ورغم كل ما حدث، وبعد كل ما حدث، بكل بشاعته وقسوته، فإن الولايات المتحدة لم تحزن على الديمقراطية المغدورة في العراق، ولا على العدالة والدستور والقانون، ولا على حقوق الإنسان، والمرجعية لم تنزعج، والقضاء لم يغضب، والشعب العراقي لم يتحرك ولم يفعل شيئا ذا قيمة لهذه الديمقراطية “الحلبوسية” الجديدة التي تحققت له بعد انتظاره الطويل.